بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 يونيو 2015

قواعد تحكم عمل الدماغ ينبغي الاستفادة منها في العملية التعليمية

الحكم على الشيء فرع عن تصوره، قاعدة فكرية تقرر أنه لكي تصدر حكمًا  على شيء ما، فلا بد أن يكون هذا الحكم مسكونًا بانطباعك ورؤيتك ومعرفتك بهذا الشيء ابتداءً، وهي قاعدة تنسحب بامتياز - أيضًا - على الطريقة التي نتعاطى بها مع إمكانات العقل البشري وطاقاته وإمكاناته.
إن ثمة حقيقة تؤكد أن فهمنا لطبيعة الشيء ومكوناته وكيف يعمل، تسهم في زيادة معرفتنا بهذا الشيء وفي زيادة تعلمنا له، ففهمنا لمكونات السيارة وكيف تعمل، يفيدنا – بغير شك – في كيفية استخدامها على نحو أفضل، وفي كيفية الحفاظ عليها، وكذلك الحال بالنسبة للعقل الإنساني، يقول دي بونو «إن الدماغ عبارة عن نظام تحدث بداخله أشياء وفقًا لطبيعة هذا النظام، كما أن معرفة طريقة عمل نظام ما، تمكن الفرد من الاستخدام الفعال له، كذلك الحال فإن فهم الكيفية التي تتم بها معالجة نظام الدماغ للمعلومات، يمكن الفرد من الوعي بالأخطاء التي يمكن أن يقع فيها النظام أثناء التفكير، ومن ثم الاستخدام الأكثر فعالية من خلال فهم طبيعة هذا النظام، بهدف تحقيق تعلم أسهل وأكثر اقتصادية (دي بونو، 2007).
ويؤكد «جينسن» المعنى نفسه بقوله: إذا أردت أن تصلح سيارتك فإنك ستتوجه إلى الميكانيكي، وإذا أردت أن تحصل على استشارة قانونية، فإنك ستذهب إلى المحامي، لماذا؟ لأن هؤلاء هم أصحاب الاختصاص في مجالهم، فإذا كانت لديك مشكلة في فهم كيفية حدوث التعلم في الدماغ فإلى من تذهب؟ .. إننا نملك الآن معلومات كافية لمساعدة المعلمين على أداء عملهم بشكل أفضل، فقد كشفت الأبحاث حتى الآن عن حقائق مذهلة في آلية عمل الدماغ، وكيف يعمل؟
(جينسن، ....).
     لذا كان طرح أسئلة من نوع: ما الذي يحدث داخل الدماغ، وكيف يحدث ذلك، تنطوي على فضول إنساني مشروع يتماهى مع سقف الطموحات وأفق التطلعات الذي هامت البشرية في سبيل تحقيقه ردحًا طويلًا من الزمان، بعد ما بات في حكم المؤكد أن مستقبل الإنسان أصبح مرتهنًا بمدى فهمه وتحكمه في ذلك المارد القابع تحت عظام جماجمنا، وأن الغد سيتمخض مبشرًا بسيطرة كاملة، وتحكم شامل في الدماغ الإنساني، وإن غدًا لناظره قريب «فعندما نتعلم ونعي أكثر، فلا بد أن يأتي اليوم الذي سنتحكم فيه في أدمغتنا كما نشاء، ونوجهها كما نريد. (عبدالمحسن صالح).
يقول « رونالد ملزاك: «  قد يأتي اليوم في المستقبل القريب الذي نستطيع فيه السيطرة على الحزم الخمس الأساسية التي تنقل الأحاسيس من الجسم إلى الدماغ عن طريق الحبل العصبي، بحيث نتحكم في تخصصات هذه الحزم المنيرة، فنشطب من نبضاتها ما نشاء، ونمحو من ملخصاتها ما نريد، ثم نبعث من خلالها بمعلومات جديدة . (المرجع السابق).
الدماغ البشري المشكلة والحل  
إذا علمنا أن التعلم يحدث في الدماغ نتيجة تكوين شبكة ارتباطات عصبونية بين خلايا الدماغ، وأن الدماغ من السعة والقدرة بمكان على إحداث هذه الارتباطات بعدد ما في الكون من ذرات، إذا علمنا هذا فلنا أن نتخيل عمق المأساة إذا تحققنا من تقديرات بعض الخبراء من أننا نستخدم – فقط – ما نسبته (1%) من (1%) من السعة المحتملة للدماغ.
إن الطريق إلى زيادة التعلم – إذا – هو كيف نعمل على زيادة الارتباطات بين العصبونات، كما أن الأمر الحاسم في قضية الذكاء هو في مقدار النسبة التي نستخدمها من دماغنا، وهنا نرفع أصواتنا مع « ديكارت» : لا يكفي أن يكون لك عقل ممتاز، ولكن الأهم أن تستعمله استعمالًا جيدًا. (الحارثي : 2003).
القواعد التي تحكم
عمل الدماغ
• كل دماغ منظم بطريقة فريدة:
على الرغم من تشابه الأفراد في استعداداتهم البرمجية العصبية، وامتلاكهم للخلايا العصبية الدماغية والحواس، فإنهم مختلفون في البرمجيات العصبية فيما يسمى ببصمة البرمجيات العصبية الدماغية.
كما أن تخطيط الدروس بصورة تتفق مع الدماغ – في ظل هذه القاعدة – لا يتبع نموذجًا محددًا؛ لأن الأساس الخاص بالتعلم المبني على الدماغ هو أن كل دماغ فريد من نوعه؛ ولذلك لن تصلح طريقة النموذج الموحد للجميع. إن تعلم مختلف المواد يستلزم استخدام طرق مختلفة لمختلف الناس وفقًا لمتغيرات مثل: التعلم المسبق، والخبرة، ونمط التعلم المفضل، ونوع المهارة التي يتم تعلمها.. إلخ، وبالتالي تحتاج لمجموعة متكاملة من الأدوات التعليمية بدلًا من النموذج الموحد كأساس لتخطيط الدروس بصورة تتوافق مع الدماغ البشري (جينس، 2007).
• استخدمه وإلا ستفقده:
إن قاعدة «استخدمه وإلا ستفقده» أو «العضو الذي لا تستخدمه يضمر» ينسجم بقوة مع ما تقدمه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID بقولها: إن القانون الذي يحكم خلية الدماغ هو : الاستخدام أو الموت.
وكما هو معلوم لدى المتخصصين في علم الأعصاب وأبحاث الدماغ أن «جهد الفعل» الذي يثير محور العصبون بقوة كافية بتيار كهربائي، يخضع لقانون الكل أو العدم «All – or – None» أي أن جهد الفعل يحدث بكامل قوته، أو لا يحدث إطلاقًا، ومن ثم إما أن يثار العصبون تمامًا أو لا يثار» (عايدة عبدالهادي، فسيولوجيا جسم الإنسان، ط 1، عمان، مكتبة الشروق).
لذا فإن قاعدة «إما .. أو» ومنطق «كل شيء أو لا شيء» هو ما يحكم عمل الدماغ البشري.
ومن الأمور الطريفة التي انتهت إليها أبحاث الدماغ أن هناك فترات يكون الدماغ مهيأ فيها للنمو، ومستعدًا لتكوين شبكات ارتباط عصبونية في موضوع معين في بعض المناطق المخصصة ففرصة نمو الخصائص البصرية - مثلًا - تظل مستمرة حتى سن العاشرة. وأن المنطقة المخصصة لتطوير المهارات السمعية، إذا لم تستثمر في الوقت المناسب لتطوير تلك المهارات، فإن مهمات أخرى سوف تعتدي عليها وتخصصها لنفسها، وسيفقد الطفل فرصة تنمية مهاراته السمعية، والأمر نفسه ينسحب على القدرات البصرية.
• كلما فكر الدماغ في شيء ازدادت فرص التفكير فيه في مرات لاحقة:
إن فرص التفكير تزداد خاصة إذا اتضح أن هذا الشيء الذي يمر بالدماغ فيه معنى في نفس القارئ؛ إذ تؤكد الأبحاث التي أجريت بوساطة تومولوجيا الانبعات البوزيتروني (PET) وجود نشاط متزايد لبعض مناطق الدماغ عندما يمر القارئ بعبارات لها معنى في نفسه ويختلف النشاط باختلاف المعنى المكنون في نفس الشخص، فإذا كان المعنى ذا صيغة عاطفية، فإن النشاط يتزايد في القسم الجبهوي والقسم القذالي والقسم الأوسط من الدماغ، وإذا كان المعنى اكتشافيًا، فإن النشاط يتزايد في القسم الجداري من الدماغ.
• الدماغ يعمل بمرونة مطلقة:
على الرغم من أن معظم وصلات الدماغ العصبية الرئيسة تتكامل في حوالي السنة العاشرة من العمر، إلا أنه يمكننا أن نعلم ونطور أدمغتنا في أي عمر، حتى في الثمانين من العمر فإن الدماغ يمكن أن يعاد تشغيله وتدريبه، وتحسينه وتطويره وتسييره.
إن هذه العملية تبدأ مبكرًا قبل أن تأتي إلى هذا العالم وتستمر إلى اليوم الذي نغاده فيه.
• التعلم المعقد عملية تتوافق مع الطريقة التي جبل بها الدماغ البشري على التعلم:
والقاعدة وراء ذلك هي أن العالم الخارجي المحيط بنا عبارة عن وحدة متكاملة، وأن من أعظم ما نمنحه لطلابنا هو جسر للتواصل بين التعلم في الفصل وبين العالم الخارجي، والعالم الخارجي يتم تعلمنا من خلاله، لا بصورة خطية، ولا منطقية، وإنما نستخلص الخبرة من كل ما ينطوي عليه هذا العالم من تعقيدات واختلافات وتناقضات أحيانًا.
• تزداد قدرة الدماغ على التعلم بالتحدي الآمن وتكف بالتهديد:
من الأمور الملاحظة في آلية عمل الدماغ أن الخبرات الحسية المصحوبة بالتهديد أو مشاعر الخوف تنتقل من الثلاموس إلى الأميجدالا، ويتم تنبيه استجابة «اضرب واهرب» في الحال، ومن ثم تقل القدرة على التعلم، في حين أن البيئة الآمنة المريحة تجعل الخبرات الحسية تنتقل من الثلاموس إلى القشرة الحسية لمعالجتها وحدوث التعلم، وهذا يتطلب تهيئة مناخ استرخائي قليل التهديد، معتدل التحدي. (حمدان محمد علي إسماعيل، 2010).
ثقافـة التهـديد 
الإنسان الخائف يرى للمشكلة مئة حل، ولا يختار منها غير الهرب، حيث يُسلم أقدامه للريح، ويذهب هناك.. بعيدًا بحثًا عن الملاذ الآمن! وفي بيئة الصف يكون الهروب هروبًا بالفكر وإن لم يتمكن المتعلم من أن يبرح المكان ، حيث تغلق دوائر التفكير، وتتغير كيمياء الدماغ، فعندما يُجابه المتعلم بنوع من الإجهاد الناجم عن الخوف أو التهديد من البيئة الصفية، ترتفع نسبة الكورتيسول، مما يتسبب في ضعف جهاز المناعة وارتفاع ضغط الدم، والإصابة ببعض الأمراض، كما أن تكرار ارتفاع نسبة الكورتيسول يؤدي إلى موت خلايا الدماغ في منطقة قرن آمون، وهي منطقة ضرورية للذاكرة (Vincent, 1995) .
• تزداد فعالية الدماغ مع الوقت:
فعند استذكارك لدرس من الدروس فإن الوقت المستغرق في المرة الأولى سيقل بشكل في المرات المتتالية، كما أن الدماغ يبذل جهدًا أقل عندما يجد المعنى الذي مر به من قبل، وستقل كمية الطاقة المبذولة.
كذلك تزداد فعالية الدماغ مع الوقت، فعند استذكارك لدرس من الدروس، فإنك تسيطر على خبرات في الساعة الأولى، وفي الساعة الثانية تزداد فعالية الدماغ أكثر، حيث تسيطر على خبرات أكثر من تلك التي تمكنت منها في الساعة الأولى، مع تساوي الخبارت التي تم تحصيلها في درجة صعوبتها، وهكذا كلما زاد الوقت ارتفعت درجة فعالية الدماغ.
• الدماغ يقاوم ما يفرض عليه دراسته:
يصبح عمل الدماغ صعبًا عندما يفقد السيطرة، ويكون ما نحاول أن نفكر فيه مفروضًا علينا، مما يجعل الدماغ يخرج عن مساره الطبيعي، كما أن التفكير يصبح سهلًا وفاعلًا عندما نفهم ما نفكر فيه، وحين يكون الدماغ مسؤولًا ومسيطرًا على شؤونه . (سوزان كوفاليك، ج 2 ،2003).
لذا ينبغي تفعيل هذه القاعدة تربويًا بمراعاة طبيعة المتعلمين وطرح مقررات اختيارية، وعدم فرض مقررات بعينها على بعض الدارسين حتى تصبح عملية التعلم خاضعة لقيادة الدماغ وسيطرته.
كثيرًا ما طرحت التساؤلات التالية على أحد أبنائي: لماذا لا تسيطر على الخبرات الواردة بالكتب الدراسية المقررة عليك بمثل سيطرتك على قراءاتك الخارجية؟ لماذا لا تحب الأولى حبك للثانية؟ لماذا لا تحدثنا عن الأولى كما تحدثنا عن الثانية؟ لماذا لا تقضي من الوقت مع الأولى ما تقضيه مع الثانية؟ لماذا توظف الخبرات الواردة في الأولى كما يحدث مع الثانية؟  لماذا لا تشعرنا أنك تحس ببهجة التعلم في الأولى كما يحدث مع الثانية؟ في كل مرة، ومع كل تساؤل من تلك الأسئلة يكون الجواب: لأن المقررات الأولى تفرض والثانية تعرض، لأن الأولى يختارها الآخرون إليّ، أما الثانية، فأنا أختارها لنفسي، لأن الأولى لا تحبني، أما الثانية فأنا أحبها.
هنا رجعت بذاكرتي إلى الوراء حيث كلمة غاندي شاعر الهند العظيم: «فنحن لا نفهم لأننا لا نحب» وهنا تيقنت أننا لن نفهم حتى نحب، ولن نحب إلا ما يتم تعلمنا له، ولن نتعلم إلا ما يتم اختيارنا له.
• إذا تعلم الدماغ شيئًا بصورة خاطئة، فهناك صعوبة بالغة لتصويب الخطأ، إذ الدماغ يقاوم ذلك بشدة:
ومن يعود هنا بذاكرته إلى الوراء، ويستدعي خبراته السابقة في السيطرة على مفهوم خاطئ، أو معلومة غير صحيحة، سيتضح له ذلك بشكل جلي. إنه يواجه مقاومة شديدة من الدماغ ليتخلى عن اعتقاده القديم، وفي هذا السياق تشير «Leslie Hant» إلى أن أصعب شيء على الدماغ هو أن يتخلى عن شيء سبق تعلمه، ومن ذلك – مثلًا – الخطأ الذي يحدث عند تهجئة إحدى الكلمات، عندما تتداخل معها كلمة أو أكثر تشبهها في الهجاء، حيث تبرز الخيارات أمامنا بقوة وتنافس، وتأتي إلى الدماغ متزامنة كخيارات، يتعزز وجودها بنفس الدرجة، فالجواب الخطأ مخزن في الذاكرة بنفس قوة تخزين الجواب الصحيح في كل مرة نحاول فيها أن نتذكر أي الخيارات هو الصحيح (سوزان كوفلايك وزميلتها، ج1، 2004).
لذا كان المهم الإفادة من تلك القاعدة في ممارساتنا التربوية، إذ يتعين على المعلم أن يصوب الأخطاء التي يقع فيها التلاميذ مباشرة، ولا يترك فترة طويلة بين وقوع التلاميذ في الأخطاء وبين تصويبها، حتى لا يتجذر الخطأ في دماغ التلميذ، ويستحيل إلى عادة يصعب اقتلاعها. وحتى إذا سجل المعلم إجابات خاطئة على السبورة ليتحقق من إدراك التلاميذ لخطئها فعليه أن يبادر وشيكًا بمسحها، حتى لا يتبادر إلى أذهان التلاميذ أنها الإجابة الصحيحة، ويبذل جهدًا كبيرًا في اقتلاعها من أذهانهم.
• تصميم الدماغ غير ملائم للانتباه المستمر أو المركز:
لم تعد صورة المعلم المثالي متمثلة في ذلك الشخص الذي يهيمن على طلابه محذرًا إياهم من عدم التركيز معه أو مواصلة الانتباه إليه، ولم تعد هناك جدوى من الفكرة القديمة عن الانتباه،  التي تنادي بـ: «احصل عليه واحتفظ به».
على العكس من ذلك فإن كثرة الانتباه أو المبالغة فيه، هي أيضًا شكل من أشكال خلل الانتباه، فمحاولة الانتباه لكل شيء هي مشكلة مثلما أن عدم الانتباه الكافي عند اللزوم هو مشكلة أيضًا.
في غرفة الصف، هناك ثلاثة أسباب تجعل الانتباه المستمر غير منتج (إيريك جينسن: ص 58 – 63).
أولًا: إن كثيرًا مما نتعلمه لا يمكن معالجته على نحو شعوري، لأنه يحدث بسرعة كبيرة جدًا، ونحن نحتاج إلى وقت لمعالجته.
ثانيًا : من أجل تكوين معنى جديد، فإننا نحتاج إلى وقت داخلي، فالمعنى يتم توليده دائمًا من الداخل وليس من الخارج.
ثالثًا: بعد كل تجربة تعلمية جديدة، نحتاج إلى وقت لجعل التعلم يرسخ أو ينطبع. إن الوقت - ذاته - عنصر مؤثر في عملية التعلم، فطاقتنا البصرية - مثلًا - التي يتم نقلها بالعصب البصري، وهي طاقة كبيرة جدًا، يصعب معالجتها بشكل شعوري، ومن أجل أن يفهمها الطالب كلها، فإنه يتعين عليه أن يتوجه إلى الداخل، ويتخلى عن ذلك الانتباه الخارجي، فنحن لا نستطيع أن نعالجها كلها بشكل واع، لذا يستمر الدماغ في معالجة المعلومات قبل وبعد أن نعي أننا نقوم بذلك، ونتيجة لذلك فإن كثيرًا من أفكارنا الرائعة تأتي على نحو غير متوقع. إننا كمربين، يجب أن نسمح بهذا الوقت الإبداعي إذا أردنا للتعلم الجديد أن يحدث، وبعد أن يحدث التعلم الجديد بالكامل فإن المتعلم في حاجة إلى أنشطة استرخائية مثل التأمل، المشي .. إلخ .
على الرغم من أن الدماغ البشري يسعى بشكل فطري لتكوين معنى للأشياء والمواقف والأحداث، إلا أن النتيجة النهائية لا تكون تلقائية، ونظرًا لأن المعنى يتولد داخليًا، فإن المعطى الخارجي يتعارض مع احتمال أن يحول المتعلمون ما تعلموه للتو إلى شيء له معنى. فأنت – كمعلم – تستطيع إما أن تكسب انتباه المتعلمين، أو أن تدعهم ليكونوا معنى لما تعلموه، ولكنك لا تستطيع مطلقًا أن تكسب الاثنين في الوقت نفسه.
في ضوء الطفرة التي حدثت في أبحاث الدماغ يمكن تأكيد ما يلي:
• إن الدماغ غير ملائم للانتباه المركز أو المستمر، وعلى العكس من ذلك، فإن كثرة الانتباه أو المبالغة فيه، هو أيضًا شكل من أشكال خلل الانتباه. فمحاولة الانتباه لكل شيء هو مشكلة، مثلما أن عدم الانتباه الكافي عند اللزوم هو مشكلة أيضًا.
• لم يعد هناك جدوى من الفكرة القديمة عن الانتباه،  التي تنادي بـ: «احصل عليه واحتفظ به»، حيث يمكنك اليوم - كمعلم - أن تجذب انتباه الطلاب لمدة (20% - 40%) من الوقت، وأن تحصل على نتائج رائعة، مع الاهتمام بإعطاء فترات للاسترخاء، أو أوقات للمعالجة.
• لقد كشفت إحدى الدراسات التي أجريت على الفئران، أنها حسنت من تعلمها عندما أعطيت جلسات تدريب قصيرة تتخللها فترات استراحة.
• إن وقت الاستراحة يسمح للدماغ بإعادة استخدام مادة (CREB)، وهي مادة تنطوي على بروتين له أهمية بالغة في تكوين الذاكرة الطويلة الأجل.
• ما كان يطلق عليه وقت ركود «استرخاء»، لم يعد كذلك في ظل أبحاث الدماغ، بل هو الوقت الأكثر أهمية لمعالجة المعلومات الجديدة .
• بدلًا من مقاومة فقدان الحيوية أو اليقظة، فإنه يمكن للمعلمين أن يستفيدوا من ذلك، يقول«Pearce Howard 1994» إن العمال يحتاجون، بصفة عامة، إلى استراحات تستغرق (5 – 10) دقائق كل ساعة ونصف، فلماذا يكون الطلاب أو المعلمون مختلفين عن ذلك.
• إن فترات المعالجة الهادفة هي مثل «حضانة للتعلم» حتى يرسخ ويستدمج في البنية المعرفية للمتعلم، وفي تمكين المتعلم من ذلك مساعدة له على إحكام الصلة بين الخبرات، والربط بينها، وهو ما تشير إليه بعض أدبيات أبحاث الدماغ باعتباره إبداعًا، حيث ترى أن الإبداع يتضح في القدرة على إدراك الروابط والعلاقات، وكأنها تعكس مرحلة «الإشراق» التي تلي «حضانة التعلم».
• إن نقاط التشابك تقـوى عندما تعطى وقتًا كي تترسخ التشابكات العصبية لأنها لا تحتاج إلى الاستجابة لمنبهات أخرى منافسة،  فإذا كان الموضوع المطروح في صورة مشكلة  تتطلب حلًا ساعد هذا الوقت التأملي على بزوغ الحل الإبداعي للمشكلة المطروحة.
• يستوعب الدماغ المعلومات عندما تتمثل أمامه بصورة ذات معنى (البحث عن المعنى فطري):
فالتعلم ذو المعنى هو تعلم يسهم بشكل فاعل ومؤثر في إقامة علاقات وتشابكات عصبية متفاعلة، ومن ثم السيطرة على الخبرات التعليمية وتنظيمها ومعالجتها والإبداع من خلالها.
الدماغ معد للنجاح في استخلاص المعنى:
الدماغ البشري مبرمج على النجاح، كما أن الدافع الطبيعي للدماغ هو الإتقان أو التمكن من شيء ما، فالدماغ البشري مولع بتكوين الأنماط ذوات المعاني، فهي خاصية للدماغ، فالأنماط والحالة هذه تعطي سياقًا ذا معنى للمعلومات، وبدونها تصبح بلا معنى، وتطرد من الدماغ. 
ويؤكد الحارثي مقولة الباحثين أن الدماغ بطبيعة تكوينه التي خلقه الله عليها يبحث عن المعرفة، انسجامًا مع قوله تعالى }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون { (الذاريات: 56)، والعبادة الصحيحة لا تتم إلا بالمعرفة، ولذلك يسميه المختصون بالآلة الباحثة عن المعرفة. (Knowledge Seeking device)، فمنذ الولادة يبدأ الدماغ في البحث عن المعرفة، وتعديل وتكييف نفسه حسب نمط الحياة التي يعيشها الطفل، فإذا عاش الطفل في بيئة فقيرة أو محرومة، أو إذا قيدت حريته وحركته، ورفضت مبادراته، فإن الدماغ يتخلص من الخلايا غير اللازمة، ومن مليارات الارتباطات غير المستعملة، أي التي لا يستعملها صاحبه، أما إذا عاش الطفل في بيئة آمنة، وفرت له الحرية والتجهيزات المادية، فإن الارتباطات العصبونية تنمو وتتسع، مما يزيد من قدرته على التفكير والتعلم. (إبراهيم الحارثي: مرجع سابق، ص 91 – 92).
• الدماغ يقرر ما سيفعله بناء على ما تم فعله:
في ضوء ما تقرره أبحاث الدماغ، فإن طريقته في التحرك للأمام واتخاذ خطوات جديدة تعتمد بشكل مباشر على ما تم عمله من قبل، وتبنى على إجراءات سبق للدماغ الانخراط فيها.
وبناء على هذه القاعدة فإن من المتعين على المعنيين بالممارسات التربوية داخل أروقة التدريس أن يهتموا بإحكام الصلة بين التعلم السابق والتعلم الحالي، واستنفار الخبرات السباقة لتكون حاضرة بقوة في مشهد التعلم الحاضر.
• النوم بعد التعلم ينمي ضعف عدد التشابكات العصبية التي ينميها تعلم المادة دون أن يعقبه نوم:
تؤكد أبحاث (سترايكر) أن دورات النوم التي لا يصاحبها حركات العين السريعة هي التي تساعد في الوصل ما بين المعلومات التي تم تعلمها في اليوم السابق، في الحقيقة إنك إذا ما درست مادة ما ثم نمت فإنك ستنمي ضعف عدد الوصلات العصبية مقارنة بالشخص الذي درس المادة ولم ينم بعدها.  
فالفرصة المناسبة هي أن ينام التلميذ حتى يوصل ما تعلمه في الأيام السابقة، وإذا لم ينم فإن ذلك لن يحدث أبدًا .
فالنوم ليس فقط هو الوقت المناسب للخلايا وأنسجة الجسم كي يتم إصلاحها وتنشيطها وصيانتها، إنما هو أيضًا الوقت الذي تتم فيه صيانة أدمغتنا. النوم هو الوقت الذي تتفرع فيه الخلايا العصبية في أدمغتنا، وفيه يتم توصيل تعلم اليوم المدرسي.
• الدماغ يدرك الكليات والأجزاء بشكل متزامن:
فالدماغ مصمم لإدراك الكليات والتفاصيل بشكل متزن، وهذا يتطلب تجنب عزل المعرفة عن سياقها، وتضمين أنشطة التعلم والتعليم لتنمية التفكير الكلي للدماغ.
ويلاحظ أن هذا التطور يختلف عن الجشط التيين الذين يرون أن الدماغ يدرك الكليات قبل التفاصيل، وأن الكل سابق للجزء .
الدماغ نظام حيوي والجسم والدماغ وحدة ديناميكية واحدة: بمعنى أن الدماغ مثل غيره من الأنظمة الحيوية أو البيئة، يتكون من أجزاء ولكنه يعمل ككل، ويمكن أن يستوعب عددًا لا نهائيًا من المدخلات البيئية كما أن أجزاء الدماغ والجسم تتفاعل مع بعضها بشكل يحدث آثارًا مباشرة أو غير مباشرة تعود إلى طبيعة الترابط الدماغي.
• الدماغ نظام اجتماعي:
فكل فرد يولد ولديه استعداد لبناء برمجيات اجتماعية عصبية يطورها نتيجة التفاعل مع المحيطين به، وخاصة من يقدمون له خدمات ضرورية للدماغ تتعلق بإشباع حاجاته الأساسية والاجتماعية والانفعالية، وهذه البرمجيات العصبية قابلة للتغيير المستمر طيلة الحياة، تبعًا لانخراط الفرد مع الآخرين وإثراء البيئة،  وعمليات التطبيع والتكيف الاجتماعي.
لذا كان من الأهمية بمكان توظيف استراتيجيات تدريس تراعي هذا البعد في عمل الدماغ، مثل التعليم التعاوني وتمثيل الأدوار وغيرها. (حمدان محمد علي إسماعيل، 2010 ).


أهم المراجـع
•  إبراهيم الحارثي (2003) التفكير والتعليم والذاكرة في ضوء أبحاث الدماغ، ط 2، الرياض، مكتبة الشقري.
•  إدوارد دي بونو (2007) كيف يعمل العقل إبداعيًا – منطقيًا، رياضيًا، ترجمة مجدي عبدالكريم، القاهرة، دار الفكر العربي.
• آرثر كوستا، بينا كاليك (2003) : تكامل عادات العقل، ج 4، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع.
•  إيريك جينسن (2003) كيف نوظف أبحاث الدماغ في التعليم، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع.
• إيريك جينسن (2007): التعلم المبني على العقل، الرياض، مكتبة جرير.
حمدان محمد علي إسماعيل (2010): الموهبة العلمية وأساليب التفكير، نموذج لتعليم العلوم في ضوء التعلم البنائي المستند إلى المخ، القاهرة، دار الفكر العربي.
•  سوزان ج كوفاليك، كارين د. أولسن (2003) تجاوز التوقعات، ترجمة مدارس الظهران الأهلية، ج 1، ج 2، ج 3، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع.
• عايدة عبد الهادي (2000) فسيولوجيا جسم الإنسان، عمان، مكتبة الشروق.
• عبد المحسن صالح (د.ت) مستقبل المخ ومصير الإنسان، الكويت، عالم الفكر.
• علي أحمد مدكور (2005) معلم المستقبل، القاهرة، دار الفكر العربي.
• كاثت ف. ننلي (2006): دماغ التلميذ، دليل للآباء والمعلمين، ترجمة محمد عودة الريماوي، عمان، دار المسيرة.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق