... «كلمة في أوانها أقوى من جيش براياته»، قول بليغ يُنسبُ إلى أحد الساسة، وكانت العرب إذا تأخر الرأي عن وقته تقول: نعوذ بالله من الرأي المدبر، وأحسب أن الحديث عن أبحاث الدماغ، وما يمكن أن تسهم به من تغيير جذري في قواعد التعليم وسقفه وجدرانه (التعليم بوصفه بناءً)، أو مدخلاته وعملياته ومخرجاته (التعليم بوصفه نظامًا)، أو تربته وجذوره وجذعه وساقه وأفرعه وثماره (التعليم بوصفه شجرة) - سيمثل انعطافة خطيرة في مسيرة الإنسان ومصيره، وفي استثمار موارده الذهنية والحفاظ عليها، وذلك في وقت يتجه فيه العالم إلى اقتصاد المعرفة، مع ما يقابل ذلك من «تقارير تشير إلى أن السواد الأعظم من البشر يميلون إلى استخدام نحو 10% وأقل من قدراتهم العقلية، تاركين بذلك مخزونًا هائلًا من الطاقة العقلية المعطلة».
وأتصور أننا ريثما نفرغ من قراءة ما قدمته أبحاث الدماغ وعلاقتها بالتعليم، والتعاطى مع استحقاقات هذه القراءة والوفاء بمتطلباتها، سنشعر ساعتها أنه كان من قبيل الكلمة التي جاءت في أوانها، والحديث الذي أتى في وقته، وإذا قيل: إن أقل شيء يمكنك أن تفعله أن تحدد ما تأمله، وأن أقصى شيء يمكنك أن تفعله هو أن تعيش ضمن ذلك الأمل. فأحسب أن ما تم تقديمه عبر تضاعيف هذه المقالة ربما يتيح لنا فرصة - إلى أن يتحقق ما حددنا - أن نعيش ضمن هذا الأمل بعدما بات في حكم المؤكد أن مستقبل الإنسان مرتهن بمدى فهمه وتحك?'ُمِهِ بِذَلِكَ المارِدِ القَابعِ دَاخَلنَا «الدماغ». وحسب أفق التوقعات وسقف الطموحات للمعنيين بأبحاث الدماغ، فإن?' الغد سيتمخض - لا محالة - مبشرًا بسيطرة كاملة، وتحكم شامل في الدماغ الإنسانى، وإن غدًا لِناظره قريب. يقول «رونالد ملزاك»: قد يأتي اليوم في المستقبل القريب الذي نستطيع فيه السيطرة على الحزم الخمس الأساسية التي تنقل الأحاسيس من الجسم إلى الدماغ عن طريق الحبل العصبى، بحيث نتحكم في تخصصات هذه الحزم المنيرة، فنشطب من نبضاتها ما نشاء، ونمحو من ملخصاتها ما نريد، ثم نبعث من خلالها بمعلومات جديدة.
لقد رَاكَمَ علماء الدماغ زخمًا من الخبرات، وقطعوا أشواطًا بعيدة المدى في سبيل تحقيق الحلم الذي حددناه، فبدأوا بإجراء تجاربهم على الحيوانات المختلفة، وتوصلوا من خلالها إلى معلومات مهمة عن الدماغ وخلاياه العصبية.
تجارب مثيرة
ومن التجارب التي أجريت على بعض الحيوانات، أو الأحياء البحرية نورد هذه التجربة المثيرة التي قام بها أحد العلماء على خلية من عقدة عصبية لقوقع بحري، ليرى كيف تستجيب للأحداث، وكيف تخزنها في ذاكرتها البدائية للغاية. فقد اختار «فيلكس شترو موازر» عددًا من القواقع البحرية ووضعها في حوض ماء، وأرد أن يدربها على شيء يمكن أن تعيه وتسجله في دماغها الذي يحتوي على عدة آلاف من الخلايا العصبية، التي تعرف باسم «العقدة العصبية». بدأ هذا العالم بمصباح كهربائى يطفئه ويضيئه للقوقع في فترات منتظمة ومتباعدة، ففي الثامنة من صباح كل يوم كان يضيء المصباح المثبت في جـدار الحوض، ويضع في الوقت ذاته شيئًا من الطعام، ثم يعـود في الثامنة من صباح اليوم التالي مع تقديمه وجبة الإفطار، واستمر الحال على ذلك أيامًا.
لم تكن القواقع - في بداية الأمر - تعرف معنى إضاءة المصباح، ولكنها تعلمت بالتكرار أن ظهور الضوء يعني وجود طعام اليوم، ولهذا عرف «شترو موازر» بعد أيام أن القواقع قد اختزنت هذه المعلومة في عقدتها العصبية، بدليل أنه كلما أضاء المصباح تحدث حركة غير عادية في الحوض، وتبدأ القواقع في البحث عن طعامها في الحال...
عندئذ، وبعد هذا التدريب، أخذ العالم قوقعًا وحطمه وأخرج تلك العقدة العصبية الصغيرة، وقص خلاياها الكبيرة - نسبيًا - بوساطة إنزيم خاص، وأخذ منها خلية عصبية واحدة، ثم زرع في الخلية سلكين رفيعـين جدًا بجهاز حساس ليقيس النبضات الكهربائية الصادرة عنها بعد تكبيرها، ثم تسجيلها على ورق خاص.
وجاءت النتائج لتؤكد أن القوقع قد تعلم شيئًا، وأنه احتفظ به في ذاكرته البدائية، بدليل أن هذه الخلية الوحيدة كانت تعبر عن ذلك بوساطة نبضات كهربائية تبعث بها في الساعة الثامنة من صباح كل يوم على هيئة أربعين خطًا تعلو وتهبط.
لقد مثلت هذه النتائج التي توصل إليها العلماء رافدًا مهمًا أمكن الإفادة منه والبناء عليه في معالجة وفهم ما يحدث داخل دماغ الإنسان، وسيأتي من بعدهم من العلماء من يؤطر لفكر جديد تأسيسًا على مقولات من سبقوهم وتجاربهم.
طائر الصدق
في هذه اللحظة تحديدًا تلح على الذاكرة قصة روائي جنوب إفريقيا المعروف «أولفير شراينر» وعنوانها «حكاية مزرعة إفريقية» حيث ترد حكاية صيد يرويها مسافر أجنبى لصبى فلاح، وقد تمثل ذلك الصيد في البحث عن طائر الصدق الأبيض الذي كان قد رآه للحظة خاطفة على شاطئ البحيرة، فأراد أن يوقعه داخل شرك لاعتقاده الطيب في قفص تصوراته، إلا أنه عرف أن طائر الصدق لا يمكن نيله إلا بالصدق فقط، فترك وادى الأوهام، وبـدأ الصعود فوق جبل الصدق، وظل يصعد ويصعد، حتى وقف أمام صخرة عالية تعترض طريقه، فبدأ يصنع سلالم وأدراجًا، وظل يصنع تلك السلالم والأدراج سنة بعد سنة حتى أصابته الشيخوخة، وهده الهرم... وحينئذ وصل إلى قمتها، غير أنه أدرك بعد ذلك أن أمامه صخرة أخرى تفوق الأولى في علوها وضخامتها، بينما عمره الآن قد وصل إلى نهايته، ففارق الحياة عند هذا الحد.
وفي سكرات موته، وهو يجود بنفسه، سقطت عليه ريشة بيضاء من جناح الطائر، فتأكد حينئذ أن الطائر الذي يقصده يقف هناك عند الصخرة التالية، وأسلم الروح مطمئنًا، لأن الجيل الذي يليه لن يضطر إلى بناء تلك السلالم والأدراج السابقة، وسوف يتمكن هذا الجيل من أن يمسك جناح الطائر بيده، ومات الشيخ وهو يقول: «حيث أرقد، وقد هدني الضعف والهرم، وحطمتني الشيخوخة، سيقف رجال آخرون، شباب قوي، تملؤهم النضرة والحيوية، سوف يصعدون الدرجات التي صُنعت، لن يعرفوا اسم الرجل الذي صنع هذه الدرجات، ولكنهم سوف يصعدون، وعلى سلمي سيصعدون، وسوف يجدون الصدق، ومن خلالي سيجدونه».
لم أجد أفضل من الكلمات السابقة لأعبر بها عن الخبرات التي انتهى إليها علماء الدماغ اعتمادًا على إفرازات البحوث التي سبقتهم إلى أن انتهى بهم المطاف إلى الأفكار التي تحتاج إلى تفصيل دقيق.
مراحل التطور
لقد مررنا بنماذج بدائية عديدة حول طريقة عمل الدماغ منذ ما يقارب (2000) سنة، فقد كان يشار إلى الدماغ كجهاز هيدروليكي (في النموذج الروماني - الإغريقي)، وكان يشار إليه بوصفه جهازًا يعتمد على ميكانيكا السوائل (في عصر النهضة)، وكان يشار إليه بوصف نولًا سحريًا (في عصر الثورة الصناعية الأولى)، وكان يُشار إليه على أنه لوحة مفاتيح المدينة (من بداية القرن التاسع عشر إلى منتصفه)، بينما أشير إليه على أنه حاسب آلى (من سنة 1950 - الثمانينيات).
كما نظر إليه من قبل البعض على أنه عبارة عن شريط فيديو لحياتنا اعتمادًا على التفسير الخاطئ للأعمال التي قام بها الجراح الكندى Penfield أثناء الجراحة، حيث إن الإثارة الكهربائية للفص الصدغي للدماغ، ولدت سلسلة من الاسترجاعات الشبيهة تقريبًا بمشاهدة لقطات من فيلم، غير أن هذه السلسلة من الاسترجاع أو التذكر حدثت لدى 3.5% من المرضى، إضافة إلى أن هذه النتائج لم تتكرر من قبل الجراحين الآخرين، لهذا رفضت هذه الأفكار.
تقول لنا نظرية الدماغ التي انتشرت في السبعينيات أننا نحتاج إلى مزيد من التعلم الذي يتم في الجزء الأيمن من الدماغ، وفيما بعد عرف المربون نظرية الدماغ الثلاثي الأجزاء، يقول لنا هذا النموذج التطوري المكون من ثلاثة أجزاء أن التحكم الدائم، يكون في الجزء السفلي من الدماغ، وتعالج المشاعر في الجزء الأوسط من الدماغ، بينما تعالج عمليات التفكير العليا في الجزء العلوي من الدماغ، هذا النموذج الذي قُدم لنا عام 1952، وانتشر أثناء سنوات السبعينيات والثمانينيات أصبح الآن لاغيًا، ويتعين على معلمي اليوم أن يعتنقوا نموذج الأنظمة الشامل - الأكثر تركيبًا وتعقيدًا لفهم الدماغ، ومن خلال الطرح الذي سنقدمه هنا، سنعرض لكثير من الأسس لهذا النموذج الجديد المستند إلى معارف متعددة وثيقة الصلة بأبحاث الدماغ. .
لقد كانت النتائج المذهلة التي انتهت إليها أبحاث الدماغ فرصة مواتية للتحول من النظرة التلسكوبية التي ترقب السلوك الظاهر للمتعلم، إلى النظرة الميكروسكوبية التي ترصد التفاعلات التي تدور داخل دماغ المتعلم، تقول سوزان كوفاليك وزميلتها: «إن الأطر القديمة تستند إلى الملاحظة من الخارج، واستنادًا إلى تلك الملاحظات، تضع فرضيات بشأن الكيفية التي يتعلم بها الطلاب، أما أبحاث الدماغ فإنها تستند إلى ملاحظات لما يدور داخل الدماغ أثناء تفكيره وتعلمه، بتقنيات عالية تسمح لنا بتحديد الأساليب والاستراتيجيات التربوية التي تساعد الدماغ على أداء عمله على النحو الطبيعى، وبشكل أكثر قوة.
إن الدعوة الموجهة للعلوم المختلفة لتولي وجهها شطر أبحاث الدماغ وما تتمخض عنه من نتائج مثيرة ومذهلة تمثل الآن صيحة عالية النبرة تتردد أصداؤها في أروقة الدوائر المعنية ببرامج التعليم والتعلم في كثير من دول العالم المتقدم.
إن تطبيقات نتائج الأبحاث الحديثة في مجال الدماغ على عمليات التعليم والتعلم تنذر بحدوث ثورة في مجال النظم التعليمية، قد تؤدى إلى تغيير أوقات الدراسة، ونظمها وسياساتها واستراتيجيات التدريس وطرائقه وأساليب التقويم والبيئة التعلمية، واستعمالات تكنولوجيا التعليم، بل قد تؤدي إلى تغيير طرق تفكيرنا في الفنون والآداب والتربية البدنية وغيرها.
لقد كانت السيطرة - في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات - للنظرية السلوكية في علم النفس، والتي اهتمت بقياس السلوك الظاهرى للإنسان وكأن لسان حالهم يقول: بما أننا لا ندري ماذا يحصل في الدماغ من عمليات تفكيرية فإن قياس السلوك الظاهرى وتهذيبه وتعديله هو الطريق الأسلم، فإذا رغبنا في تنمية سلوك معين فما علينا إلا تعزيزه والمكافأة على أدائه، وإذا لم نرغب في سلوك آخر فما علينا إلا المعاقبة عليه، الأمر الذي يضطر معه الكائن الحي إلى تعديل السلوك أو حذفه.
أما الآن: فإن ثمة حقيقة تؤكد أن فهمنا لطبيعة الشيء ومكوناته وكيف يعمل، تسهم في زيادة معرفتنا بهذا الشيء وفي زيادة تعلمنا، ففهمنا لمكونات السيارة وكيف تعمل، يفيدنا بغير شك في كيفية استخدامها على نحو أفضل، وفي كيفـية الحفاظ عليها، وكذلك الحال بالنسبة للعقل الإنسانى، يقول دى بونو «إن الدماغ عبارة عن نظام تحدث بداخله الأشياء وفقًا لطبيعة هذا النظام، كما أن معرفة طريقة عمل نظام ما تمكن الفرد من عمل استخدام فعال له، إن بعض الفهم لكيفية معالجة نظام المخ للمعلومات، يمكن الفرد من الوعي بالأخطاء التي يمكن أن يقع فيها النظام أثناء التفكير، ومن ثم الاستخدام الأكثر فعالية من خلال فهم طبيعة هذا النظام، بهدف تحقيق تعلم أسهل وأكثر اقتصادية.
ومن هنا كان توظيف إستراتيجيات التعلم التي تستخدم المعلومات الجديدة عن الدماغ، تساعد في العمل على تحسين عملية التعلم والمنجزات المرادفة لها.
تحولات كبيرة
وفي العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين بدأت تظهر بوادر تحول جذري في النظر إلى عمليات التعلم والتعليم، ورفعت شعارات مثل: تسريع التعلم، كما ظهرت تقنيات مثل: التصوير الطبقى للدماغ، والمرنان المغناطيسى، والمرنان النووي المغناطيسى وطموغرافيا الانبعاث البوزيتروني، وقد أعطت هذه التقنيات الباحثين طرقًا جديدة للتعرف على ما يجري في الدماغ، فلأول مرة في التاريخ يمكن تصوير الدماغ ومتابعة تحليل العمليات التي يقوم بها في حالة كون صاحبه حيًا، وأصبح بالإمكان التقاط صور مقطعية لأنسجة الدماغ بوساطة جهاز المرنان المغناطيسى النووي في كل 50 ملي ثانية، أى كل 0.05 من الثانية، وتسمح هذه السرعة بقياس تتابع التفكير خلال مساحة صغيرة من الدماغ. وقد مكنت تكنولوجيا الحاسوب المتطورة من قياس الكهرباء المتولدة من الدماغ، الأمر الذي يسمح بتتبع نشاط الدماغ أثناء حل المشكلات.
كذلك ساعدت تكنولوجيا طوموغرافيا الانبعاث البوزيترونى وغيرها في دراسة كيمياء الدماغ والتحولات التي تجري عند الشعور بالألم أو الحزن أو الفرح.
كما كشفت بعض الأبحاث والتجارب التي أجريت على الحيوانات مثل الفئران عن معلومات قيمة تتأثر بالبيئة الغنية على عمليات الدماغ.
علم الدماغ
كل هذه التطورات ساعدت على ظهور علم جديد هو علم الدماغ (Neuroscience)، وهو علم مثير يتكون من تداخل عدد من العلوم.. وفي التسعينيات من القرن العشرين تطور البحث في هذا المجال إلى تخصصات جاوزت العشرات.
وإذا كانت السرعة الهائلة هي إحدى سمات العصر الذي نعيشه إلى الحد الذي جعل البعض لم يتمكن من متابعة إيقاعه العنيف الذي يشبه القطار، رافعًا شعار «أوقفوا هذا العالم فإننا نريد أن ننزل» فإن سرعة تقدم المعرفة في علم الدماغ بوتائر متصاعدة، لم يسبق لها مثيل هى الأخرى، لدرجة أن أحد المختصين يقول: «إن المعلومات التي يمضى عليها سنتان في علم وظائف الدماغ تصبح معلومات قديمة. إننا نواجه ثورة معرفية في علم الأعصاب والدماغ، ومن المتوقع أن يكشف المستقبل القريب عن تكنولوجيا دقيقة ومتطورة تساعد في الكشف عن عجائب الدماغ.
كما أننا نواجه قائمة من التحديات، يتعرض لها الطلاب والمعلمون والإداريون، هي أكبر مما واجهوه في أي وقت مضى، وهي تحديات من المرجح ألا تحل، أو يتم التغلب عليها، حتى نغير طرق تفكيرنا بشأن التعليم والتعلم. إذ لا يمكن حل المشاكل باستخدام التفكير الذي أوجدها نفسه ومن ثم فإن الحاجة تدعونا - كما تقترح Marian Diomond إلى أن نغير السؤال القديم الذي يطرحه المربون من: كيف يمكنني مساعدة أحمد على تعلم هذه المعلومات في القراءة أو الهجاء؟ لتصبح صياغة السؤال: كيف يمكنني أن أحس?'ن مثيرات الدماغ لجعله ينمو، وليزيد من عدد الوصلات التي تتم وقوتها، وليثبت التعلم في الذاكرة الطويلة الأجل؟
وعلى الرغم من أهمية الدعوى المطروحة للعناية بما أسفرت عنه نتائج أبحاث الدماغ، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إلى أن يعلن في عام 1990 أن العقد الأخير من القرن العشرين هو عقد الدماغ ؛ فإن هناك مقاومة لهذا التوجه لاستخدام أبحاث الدماغ، بعض هذه المقاومة ينشأ من النظرات الجزئية لنتائج أبحاث الدماغ، في حين أن المعلمين يحتاجون إلى أن تكون لديهم نظرة شاملة، تتضمن تطبيقات عملية في الواقع الصفي، كما أن بعض المقاومة لتوظيف أبحاث الدماغ ينشأ من إدراك كثير من المعلمين أن ما تقوله لنا أبحاث الدماغ، يشير إلى حاجة قوية لتغيير أساليبنا القديمة، وهذا يمثل درجة من التغيير قد تبدو مربكة أو تتجاوز مستوى التزامنا.
إلى أين المســير؟
يقول «إريك جينسن»: إذا أردت أن تصلح سيارتك فإنك ستتوجه إلى الميكانيكي، وإذا أردت أن تحصل على استشارة قانونية، فإنك ستذهب إلى المحامي، لماذا؟ لأن هؤلاء هم أصحاب الاختصاص في مجالهم، فإذا كانت لديك مشكلة في فهم كيفية حدوث التعلم في الدماغ فإلى من تذهب؟ هل تذهب إلى علماء الأعصاب وعلماء التشريح؟ فهؤلاء لا يتفقون على جواب، هل تذهب إلى علماء النفس والتربية؟ إن هؤلاء لا يعرفون أيضًا كيف يعمل الدماغ، هل تذهب إلى المعلمين؟ أغلب الظن أنك لن تذهب إليهم، لأنهم غير مختصين في هذا المجال، وعلى الرغم من ذلك فإن ملايين الآباء والأمهات يرسلون أبناءهم يوميًا إلى المعلمين ليعلموهم.
دفاعًا عن المعلمين فإننا نقول أنه حتى علماء الأعصاب لا يزالون مختلفين فيما بينهم حول بعض العمليات الداخلية التي تجري في الدماغ، كما أن معظم كليات التربية تقدم مساقات في علم النفس وليس في علم الأعصاب، كما أن التدريب أثناء الخدمة يوجه نحو أعراض المشاكل وليس نحو المعرفة المتعلقة بطريقة عمل الدماغ.
فإذا سلمنا أن كل من ذكرناهم لا يعرفون كيفية عمل الدماغ، ولا كيف يتعلم؟ فمن الذي يعرف؟ لا أحد يستطيع أن يعطيك جوابًا قاطعًا وكل ما نستطيع قوله: إنه على الرغم من وجود أسئلة حول الدماغ تنتظر إجابات شافية، فإننا نملك الآن معلومات كافية لمساعدة المعلمين على أداء عملهم بشكل أفضل، فقد كشفت الأبحاث حتى الآن عن حقائق مذهلة في كيفية عمل الدماغ، وكيف يعمل؟
إن سؤالًا مثل: ماذا يحدث داخل الدماغ؟ هو سؤال ينطوي على فضول إنسانى مشروع، وهو سؤال يعد جوابه في غاية الأهمية لتحسين التعليم والتعلم، وكما يقول Hart: «على الرغم من أن ما نعرفه الآن أقل بكثير مما يمكننا أن نعرفه، وما نرغب في معرفته، فإننا نعرف ما يكفى لتغيير طرقنا، ويمكننا أن نفعل ذلك بدون أن ننظر إلى معرفة كل شيء عن بيولوجيا الدماغ».
دور المعـلم
بينما يزداد عدد المربين الذين يعرفون عن التعلم المنسجم مع الدماغ أكثر فأكثر، يتعين على كل معلم أن يبتدر نفسه بقائمة من الأسئلة: نحن الآن نعرف كثيرًا من خلال معلومات موثقة عن كيف نهيئ بيئة تعليمية أفضل؟ وكيف نخطط لأساليب تقويم أفضل؟... إلخ. كما يتعين على المعلمين أن يشاركوا بوصفهم أشخاصًا محترفين في أبحاث إجرائية، فمثلًا، هل هناك نوع معين من الإيقاع يحفز الدماغ على كتابة الشعر: قسم طلاب صفك إلى مجموعتين وحاول أن تعرف إجابة هذا السؤال من خلال تعريض إحدى المجموعتين لإيقاعات، ومنعها عن الأخرى، وحاول أن تعرف الإجابة عن هذا السؤال: هل تخفيض التهديد والتوتر يشجع على المشاركة؟ قسم طلاب صفك مجموعتين: مجموعة التوتر المنخفض، ومجموعة التوتر المعتدل، وجرب، وهل ممارسة الحركة أثناء التعلم تفيد في عمل الدماغ واحتفاظ الطلاب بالتعلم؟ قسم طلاب الصف مجموعتين، مجموعة تتعلم مع الحركة، ومجموعة بدونها وجرب، إلخ.
إن معرفتك لمعلومات مهمة عن كيفية أداء عملك أو وظيفتك لم يعد عملًا اختياريًا، هل لنا أن نقترح أن تصبح معرفة أبحاث الدماغ الحالية وعلاقتها بالتعلم متطلبات أساسية بالنسبة للمربين؟ أنت - كمعلم - لا تحتاج لأن تكون عالمًا بيولوجيًا أو عالمَ أعصابٍ لكى تستوعب هذه المفاهيم الأساسية، تجنب الانشغال بالمصطلحات الفنية، أو العمليات العصبية التخصصية - فماذا عساك أن تفعل:
أولًا: كن أكثر معرفة بالدماغ من خلال معرفتك بالأفكار والمبادئ الرئيسة المتعلقة به.
ثانيًا: استخدم ما عرفته بالسرعة التي يمكنك من خلالها أن تقدم أفضل أداء.
ثالثًا: ابدأ بالتغيير على مستوى المدرسة، وعلى مستوى المنطقة التعليمية.
إن هذه المعلومات ليست صرعة أو ورشة عمل لتطوير الموظفين تستغرق يومًا واحدًا، وينتهى الأمر عند هذا الحد، بل يجب أن تكون قوة مستمرة توجهك يوميًا في عملية اتخاذ قراراتك، وفي إشراك الزملاء من المربين في عملية التغيير، عن طريق تزويدهم بمواصفات التعلم المنسجم مع الدماغ، والمساعدة في تدريبهم، والحوار معهم، والكتابة اليومية، وإجراء التجارب... إلخ.
يقول إريك جينسن: إن ورشة واحدة عن التعلم المنسجم مع الدماغ، قد عايشتها عام 1980، كان لها أثر قوي جدًا علي?' حتى اليوم، لدرجة أننى وبعد عقدين من الزمن تقريبًا، يمكننى أن أتذكر ما دار فيها، كما أنني لازلت أستخدمها، بدون شك. إن محتوى الورشة والأنشطة والعمليات التي قُدمت رسخت في دماغى بعمق، إذ إن المقدمين في تلك الورشة فهموا بوضوح، وعرفوا كيف يستخدمون مبادئ مهمة عن التعلم والدماغ. بعد ذلك اليوم، أصبحت شديد التحمس لدرجة أننى قررت أن أتبادل حماسى هذا مع آخرين، وكان رد فعلى الأول هو: لماذا لا يكون لدى طلابي مثل هذا النوع من الخبرة التعلمية كل يوم؟ لقد كان هذا السؤال متواضعًا وواعدًا في الوقت نفسه.
وُجـد ليبقـى
ومن الأمور الجديرة بالتسجيل في هذا السياق هي أن التعلم المنسجم مع الدماغ، على الرغم من أنه لن يقدم علاجًا لكل شيء، فإنه لا يمثل صرعة تظهر بعض الوقت وتختفي، وإنما هو موجود ليبقى، كما أن إرهاصاته الأولى تراهن على أنه سيؤثر في كل شيء نعمله تقريبًا، بما في ذلك الإدارة التعليمية، وإدارة الصف، والمناهج الدراسية، وإستراتيجيات التدريس، وأساليب التقويم، بل إن هناك توقعات لا تخلو من المبالغة بشأن علم الدماغ، مفادها أن علم الدماغ والأعصاب سوف يستوعب جميع العلوم السلوكية والعلوم المعرفية، بل إن نتائج الأبحاث في علم الدماغ تشير إلى أنه ينبغى إعادة النظـر في سن التقاعد نتيجة العناية الصحية التي سيتمتع بها الأفراد، كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ستتحسن، نظرًا لعلاج كـثير من الأمراض، ومن خلال ربط نتائج أبحاث علم الدماغ بالعلوم البيولوجية والاجتماعية، وكذلك تحقيق استثمار أمثل للموارد البشرية والمادية، واستخدام مصادر المعرفة بطريقة فاعلة توفر الجهد والوقت والمال
المراجع:
- سكوت وات (2003): كيف تضاعف ذكاءك، الرياض، ط 1، مكتبة جرير.
- عبدالمحسن صالح، مستقبل المخ ومصير الإنسان،، الكويت، عالم الفكر. ص 134، 135.
- علي الحمادي، حقنة الإبداع، طرق الإبداع الثمان، الرياض، دار ابن حازم. ص 35 - 37.
- إيريك جينسن (2003): كيف نوظف أبحاث الدماغ في التعليم، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع، ص128.
- السابق ص5.
- سوزان ج. كوفاليك، كارين د. أولسن (2003): تجاوز التوقعات، ترجمة مدارس الظهران الأهلية، الكتاب الأول، ط 1، الدمام. دار الكتاب التربوى للنشر والتوزيع، جـ 1، ص 3: 24.
- إدوار دي بونو (2007): كيف يعمل العقل؟ إبداعيًا - منطقيًا - رياضيًا، ترجمة مجدى عبد الكريم حبيب، ط 1، القاهرة، دار الفكر العربى، ص 24.
- ناديا هايل السرور (2003): مدخل إلى تربية المتميزين والموهوبين ط 4، عمان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- سوزان ج كوفاليك وزميلتها، تجاوز التوقعات، ج 1.
- جينسن: 10،. إبراهيم الحارثي (2003): التفكير والتعلم والذاكرة في ضوء أبحاث الدماغ، ط 21، الرياض، مكتبة الشقري. ص54.
- سوزان ج كوفاليك وزميلتها، تجاوز التوقعات، 2003، ج1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق