بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 يونيو 2015

عملية اللا وعي في الدماغ


هل تستخدم دماغك الايمن أم الايسر في التفكير ؟


تعرف على عمرك العقلي مع هذا الاختبار !!


أبحاث الدمـاغ... وتعليم المستقبل

... «كلمة في أوانها أقوى من جيش براياته»، قول بليغ يُنسبُ إلى أحد الساسة، وكانت العرب إذا تأخر الرأي عن وقته تقول: نعوذ بالله من الرأي المدبر، وأحسب أن الحديث عن أبحاث الدماغ، وما يمكن أن تسهم به من تغيير جذري في قواعد التعليم وسقفه وجدرانه (التعليم بوصفه بناءً)، أو مدخلاته وعملياته ومخرجاته (التعليم بوصفه نظامًا)، أو تربته وجذوره وجذعه وساقه وأفرعه وثماره (التعليم بوصفه شجرة) - سيمثل انعطافة خطيرة في مسيرة الإنسان ومصيره، وفي استثمار موارده الذهنية والحفاظ عليها، وذلك في وقت يتجه فيه العالم إلى اقتصاد المعرفة، مع ما يقابل ذلك من «تقارير تشير إلى أن السواد الأعظم من البشر يميلون إلى استخدام نحو 10% وأقل من قدراتهم العقلية، تاركين بذلك مخزونًا هائلًا من الطاقة العقلية المعطلة».

وأتصور أننا ريثما نفرغ من قراءة ما قدمته أبحاث الدماغ وعلاقتها بالتعليم، والتعاطى مع استحقاقات هذه القراءة والوفاء بمتطلباتها، سنشعر ساعتها أنه كان من قبيل الكلمة التي جاءت في أوانها، والحديث الذي أتى في وقته، وإذا قيل: إن أقل شيء يمكنك أن تفعله أن تحدد ما تأمله، وأن أقصى شيء يمكنك أن تفعله هو أن تعيش ضمن ذلك الأمل. فأحسب أن ما تم تقديمه عبر تضاعيف هذه المقالة ربما يتيح لنا فرصة - إلى أن يتحقق ما حددنا - أن نعيش ضمن هذا الأمل بعدما بات في حكم المؤكد أن مستقبل الإنسان مرتهن بمدى فهمه وتحك?'ُمِهِ بِذَلِكَ المارِدِ القَابعِ دَاخَلنَا «الدماغ». وحسب أفق التوقعات وسقف الطموحات للمعنيين بأبحاث الدماغ، فإن?' الغد سيتمخض - لا محالة - مبشرًا بسيطرة كاملة، وتحكم شامل في الدماغ الإنسانى، وإن غدًا لِناظره قريب. يقول «رونالد ملزاك»: قد يأتي اليوم في المستقبل القريب الذي نستطيع فيه السيطرة على الحزم الخمس الأساسية التي تنقل الأحاسيس من الجسم إلى الدماغ عن طريق الحبل العصبى، بحيث نتحكم في تخصصات هذه الحزم المنيرة، فنشطب من نبضاتها ما نشاء، ونمحو من ملخصاتها ما نريد، ثم نبعث من خلالها بمعلومات جديدة.
لقد رَاكَمَ علماء الدماغ زخمًا من الخبرات، وقطعوا أشواطًا بعيدة المدى في سبيل تحقيق الحلم الذي حددناه، فبدأوا بإجراء تجاربهم على الحيوانات المختلفة، وتوصلوا من خلالها إلى معلومات مهمة عن الدماغ وخلاياه العصبية.
تجارب مثيرة
ومن التجارب التي أجريت على بعض الحيوانات، أو الأحياء البحرية نورد هذه التجربة المثيرة التي قام بها أحد العلماء على خلية من عقدة عصبية لقوقع بحري، ليرى كيف تستجيب للأحداث، وكيف تخزنها في ذاكرتها البدائية للغاية. فقد اختار «فيلكس شترو موازر» عددًا من القواقع البحرية ووضعها في حوض ماء، وأرد أن يدربها على شيء يمكن أن تعيه وتسجله في دماغها الذي يحتوي على عدة آلاف من الخلايا العصبية، التي تعرف باسم «العقدة العصبية». بدأ هذا العالم بمصباح كهربائى يطفئه ويضيئه للقوقع في فترات منتظمة ومتباعدة، ففي الثامنة من صباح كل يوم كان يضيء المصباح المثبت في جـدار الحوض، ويضع في الوقت ذاته شيئًا من الطعام، ثم يعـود في الثامنة من صباح اليوم التالي مع تقديمه وجبة الإفطار، واستمر الحال على ذلك أيامًا.
لم تكن القواقع - في بداية الأمر - تعرف معنى إضاءة المصباح، ولكنها تعلمت بالتكرار أن ظهور الضوء يعني وجود طعام اليوم، ولهذا عرف «شترو موازر» بعد أيام أن القواقع قد اختزنت هذه المعلومة في عقدتها العصبية، بدليل أنه كلما أضاء المصباح تحدث حركة غير عادية في الحوض، وتبدأ القواقع في البحث عن طعامها في الحال...
عندئذ، وبعد هذا التدريب، أخذ العالم قوقعًا وحطمه وأخرج تلك العقدة العصبية الصغيرة، وقص خلاياها الكبيرة - نسبيًا - بوساطة إنزيم خاص، وأخذ منها خلية عصبية واحدة، ثم زرع في الخلية سلكين رفيعـين جدًا بجهاز حساس ليقيس النبضات الكهربائية الصادرة عنها بعد تكبيرها، ثم تسجيلها على ورق خاص.
وجاءت النتائج لتؤكد أن القوقع قد تعلم شيئًا، وأنه احتفظ به في ذاكرته البدائية، بدليل أن هذه الخلية الوحيدة كانت تعبر عن ذلك بوساطة نبضات كهربائية تبعث بها في الساعة الثامنة من صباح كل يوم على هيئة أربعين خطًا تعلو وتهبط.
لقد مثلت هذه النتائج التي توصل إليها العلماء رافدًا مهمًا أمكن الإفادة منه والبناء عليه في معالجة وفهم ما يحدث داخل دماغ الإنسان، وسيأتي من بعدهم من العلماء من يؤطر لفكر جديد تأسيسًا على مقولات من سبقوهم وتجاربهم.
طائر الصدق
في هذه اللحظة تحديدًا تلح على الذاكرة قصة روائي جنوب إفريقيا المعروف «أولفير شراينر» وعنوانها «حكاية مزرعة إفريقية» حيث ترد حكاية صيد يرويها مسافر أجنبى لصبى فلاح، وقد تمثل ذلك الصيد في البحث عن طائر الصدق الأبيض الذي كان قد رآه للحظة خاطفة على شاطئ البحيرة، فأراد أن يوقعه داخل شرك لاعتقاده الطيب في قفص تصوراته، إلا أنه عرف أن طائر الصدق لا يمكن نيله إلا بالصدق فقط، فترك وادى الأوهام، وبـدأ الصعود فوق جبل الصدق، وظل يصعد ويصعد، حتى وقف أمام صخرة عالية تعترض طريقه، فبدأ يصنع سلالم وأدراجًا، وظل يصنع تلك السلالم والأدراج سنة بعد سنة حتى أصابته الشيخوخة، وهده الهرم... وحينئذ وصل إلى قمتها، غير أنه أدرك بعد ذلك أن أمامه صخرة أخرى تفوق الأولى في علوها وضخامتها، بينما عمره الآن قد وصل إلى نهايته، ففارق الحياة عند هذا الحد.
وفي سكرات موته، وهو يجود بنفسه، سقطت عليه ريشة بيضاء من جناح الطائر، فتأكد حينئذ أن الطائر الذي يقصده يقف هناك عند الصخرة التالية، وأسلم الروح مطمئنًا، لأن الجيل الذي يليه لن يضطر إلى بناء تلك السلالم والأدراج السابقة، وسوف يتمكن هذا الجيل من أن يمسك جناح الطائر بيده، ومات الشيخ وهو يقول: «حيث أرقد، وقد هدني الضعف والهرم، وحطمتني الشيخوخة، سيقف رجال آخرون، شباب قوي، تملؤهم النضرة والحيوية، سوف يصعدون الدرجات التي صُنعت، لن يعرفوا اسم الرجل الذي صنع هذه الدرجات، ولكنهم سوف يصعدون، وعلى سلمي سيصعدون، وسوف يجدون الصدق، ومن خلالي سيجدونه».
لم أجد أفضل من الكلمات السابقة لأعبر بها عن الخبرات التي انتهى إليها علماء الدماغ اعتمادًا على إفرازات البحوث التي سبقتهم إلى أن انتهى بهم المطاف إلى الأفكار التي تحتاج إلى تفصيل دقيق.
مراحل التطور
لقد مررنا بنماذج بدائية عديدة حول طريقة عمل الدماغ منذ ما يقارب (2000) سنة، فقد كان يشار إلى الدماغ كجهاز هيدروليكي (في النموذج الروماني - الإغريقي)، وكان يشار إليه بوصفه جهازًا يعتمد على ميكانيكا السوائل (في عصر النهضة)، وكان يشار إليه بوصف نولًا سحريًا (في عصر الثورة الصناعية الأولى)، وكان يُشار إليه على أنه لوحة مفاتيح المدينة (من بداية القرن التاسع عشر إلى منتصفه)، بينما أشير إليه على أنه حاسب آلى (من سنة 1950 - الثمانينيات).
كما نظر إليه من قبل البعض على أنه عبارة عن شريط فيديو لحياتنا اعتمادًا على التفسير الخاطئ للأعمال التي قام بها الجراح الكندى Penfield أثناء الجراحة، حيث إن الإثارة الكهربائية للفص الصدغي للدماغ، ولدت سلسلة من الاسترجاعات الشبيهة تقريبًا بمشاهدة لقطات من فيلم، غير أن هذه السلسلة من الاسترجاع أو التذكر حدثت لدى 3.5% من المرضى، إضافة إلى أن هذه النتائج لم تتكرر من قبل الجراحين الآخرين، لهذا رفضت هذه الأفكار.
تقول لنا نظرية الدماغ التي انتشرت في السبعينيات أننا نحتاج إلى مزيد من التعلم الذي يتم في الجزء الأيمن من الدماغ، وفيما بعد عرف المربون نظرية الدماغ الثلاثي الأجزاء، يقول لنا هذا النموذج التطوري المكون من ثلاثة أجزاء أن التحكم الدائم، يكون في الجزء السفلي من الدماغ، وتعالج المشاعر في الجزء الأوسط من الدماغ، بينما تعالج عمليات التفكير العليا في الجزء العلوي من الدماغ، هذا النموذج الذي قُدم لنا عام 1952، وانتشر أثناء سنوات السبعينيات والثمانينيات أصبح الآن لاغيًا، ويتعين على معلمي اليوم أن يعتنقوا نموذج الأنظمة الشامل - الأكثر تركيبًا وتعقيدًا لفهم الدماغ، ومن خلال الطرح الذي سنقدمه هنا، سنعرض لكثير من الأسس لهذا النموذج الجديد المستند إلى معارف متعددة وثيقة الصلة بأبحاث الدماغ. .
لقد كانت النتائج المذهلة التي انتهت إليها أبحاث الدماغ فرصة مواتية للتحول من النظرة التلسكوبية التي ترقب السلوك الظاهر للمتعلم، إلى النظرة الميكروسكوبية التي ترصد التفاعلات التي تدور داخل دماغ المتعلم، تقول سوزان كوفاليك وزميلتها: «إن الأطر القديمة تستند إلى الملاحظة من الخارج، واستنادًا إلى تلك الملاحظات، تضع فرضيات بشأن الكيفية التي يتعلم بها الطلاب، أما أبحاث الدماغ فإنها تستند إلى ملاحظات لما يدور داخل الدماغ أثناء تفكيره وتعلمه، بتقنيات عالية تسمح لنا بتحديد الأساليب والاستراتيجيات التربوية التي تساعد الدماغ على أداء عمله على النحو الطبيعى، وبشكل أكثر قوة.
إن الدعوة الموجهة للعلوم المختلفة لتولي وجهها شطر أبحاث الدماغ وما تتمخض عنه من نتائج مثيرة ومذهلة تمثل الآن صيحة عالية النبرة تتردد أصداؤها في أروقة الدوائر المعنية ببرامج التعليم والتعلم في كثير من دول العالم المتقدم.
إن تطبيقات نتائج الأبحاث الحديثة في مجال الدماغ على عمليات التعليم والتعلم تنذر بحدوث ثورة في مجال النظم التعليمية، قد تؤدى إلى تغيير أوقات الدراسة، ونظمها وسياساتها واستراتيجيات التدريس وطرائقه وأساليب التقويم والبيئة التعلمية، واستعمالات تكنولوجيا التعليم، بل قد تؤدي إلى تغيير طرق تفكيرنا في الفنون والآداب والتربية البدنية وغيرها.
لقد كانت السيطرة - في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات - للنظرية السلوكية في علم النفس، والتي اهتمت بقياس السلوك الظاهرى للإنسان وكأن لسان حالهم يقول: بما أننا لا ندري ماذا يحصل في الدماغ من عمليات تفكيرية فإن قياس السلوك الظاهرى وتهذيبه وتعديله هو الطريق الأسلم، فإذا رغبنا في تنمية سلوك معين فما علينا إلا تعزيزه والمكافأة على أدائه، وإذا لم نرغب في سلوك آخر فما علينا إلا المعاقبة عليه، الأمر الذي يضطر معه الكائن الحي إلى تعديل السلوك أو حذفه.
أما الآن: فإن ثمة حقيقة تؤكد أن فهمنا لطبيعة الشيء ومكوناته وكيف يعمل، تسهم في زيادة معرفتنا بهذا الشيء وفي زيادة تعلمنا، ففهمنا لمكونات السيارة وكيف تعمل، يفيدنا بغير شك في كيفية استخدامها على نحو أفضل، وفي كيفـية الحفاظ عليها، وكذلك الحال بالنسبة للعقل الإنسانى، يقول دى بونو «إن الدماغ عبارة عن نظام تحدث بداخله الأشياء وفقًا لطبيعة هذا النظام، كما أن معرفة طريقة عمل نظام ما تمكن الفرد من عمل استخدام فعال له، إن بعض الفهم لكيفية معالجة نظام المخ للمعلومات، يمكن الفرد من الوعي بالأخطاء التي يمكن أن يقع فيها النظام أثناء التفكير، ومن ثم الاستخدام الأكثر فعالية من خلال فهم طبيعة هذا النظام، بهدف تحقيق تعلم أسهل وأكثر اقتصادية.
ومن هنا كان توظيف إستراتيجيات التعلم التي تستخدم المعلومات الجديدة عن الدماغ، تساعد في العمل على تحسين عملية التعلم والمنجزات المرادفة لها.
تحولات كبيرة
 وفي العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين بدأت تظهر بوادر تحول جذري في النظر إلى عمليات التعلم والتعليم، ورفعت شعارات مثل: تسريع التعلم، كما ظهرت تقنيات مثل: التصوير الطبقى للدماغ، والمرنان المغناطيسى، والمرنان النووي المغناطيسى وطموغرافيا الانبعاث البوزيتروني، وقد أعطت هذه التقنيات الباحثين طرقًا جديدة للتعرف على ما يجري في الدماغ، فلأول مرة في التاريخ يمكن تصوير الدماغ ومتابعة تحليل العمليات التي يقوم بها في حالة كون صاحبه حيًا، وأصبح بالإمكان التقاط صور مقطعية لأنسجة الدماغ بوساطة جهاز المرنان المغناطيسى النووي في كل 50 ملي ثانية، أى كل 0.05 من الثانية، وتسمح هذه السرعة بقياس تتابع التفكير خلال مساحة صغيرة من الدماغ. وقد مكنت تكنولوجيا الحاسوب المتطورة من قياس الكهرباء المتولدة من الدماغ، الأمر الذي يسمح بتتبع نشاط الدماغ أثناء حل المشكلات.
كذلك ساعدت تكنولوجيا طوموغرافيا الانبعاث البوزيترونى وغيرها في دراسة كيمياء الدماغ والتحولات التي تجري عند الشعور بالألم أو الحزن أو الفرح.
كما كشفت بعض الأبحاث والتجارب التي أجريت على الحيوانات مثل الفئران عن معلومات قيمة تتأثر بالبيئة الغنية على عمليات الدماغ.
علم الدماغ
كل هذه التطورات ساعدت على ظهور علم جديد هو علم الدماغ (Neuroscience)، وهو علم مثير يتكون من تداخل عدد من العلوم.. وفي التسعينيات من القرن العشرين تطور البحث في هذا المجال إلى تخصصات جاوزت العشرات.
وإذا كانت السرعة الهائلة هي إحدى سمات العصر الذي نعيشه إلى الحد الذي جعل البعض لم يتمكن من متابعة إيقاعه العنيف الذي يشبه القطار، رافعًا شعار «أوقفوا هذا العالم فإننا نريد أن ننزل» فإن سرعة تقدم المعرفة في علم الدماغ بوتائر متصاعدة، لم يسبق لها مثيل هى الأخرى، لدرجة أن أحد المختصين يقول: «إن المعلومات التي يمضى عليها سنتان في علم وظائف الدماغ تصبح معلومات قديمة. إننا نواجه ثورة معرفية في علم الأعصاب والدماغ، ومن المتوقع أن يكشف المستقبل القريب عن تكنولوجيا دقيقة ومتطورة تساعد في الكشف عن عجائب الدماغ.
كما أننا نواجه قائمة من التحديات، يتعرض لها الطلاب والمعلمون والإداريون، هي أكبر مما واجهوه في أي وقت مضى، وهي تحديات من المرجح ألا تحل، أو يتم التغلب عليها، حتى نغير طرق تفكيرنا بشأن التعليم والتعلم. إذ لا يمكن حل المشاكل باستخدام التفكير الذي أوجدها نفسه ومن ثم فإن الحاجة تدعونا - كما تقترح Marian Diomond إلى أن نغير السؤال القديم الذي يطرحه المربون من: كيف يمكنني مساعدة أحمد على تعلم هذه المعلومات في القراءة أو الهجاء؟ لتصبح صياغة السؤال: كيف يمكنني أن أحس?'ن مثيرات الدماغ لجعله ينمو، وليزيد من عدد الوصلات التي تتم وقوتها، وليثبت التعلم في الذاكرة الطويلة الأجل؟
وعلى الرغم من أهمية الدعوى المطروحة للعناية بما أسفرت عنه نتائج أبحاث الدماغ، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، إلى أن يعلن في عام 1990 أن العقد الأخير من القرن العشرين هو عقد الدماغ ؛ فإن هناك مقاومة لهذا التوجه لاستخدام أبحاث الدماغ، بعض هذه المقاومة ينشأ من النظرات الجزئية لنتائج أبحاث الدماغ، في حين أن المعلمين يحتاجون إلى أن تكون لديهم نظرة شاملة، تتضمن تطبيقات عملية في الواقع الصفي، كما أن بعض المقاومة لتوظيف أبحاث الدماغ ينشأ من إدراك كثير من المعلمين أن ما تقوله لنا أبحاث الدماغ، يشير إلى حاجة قوية لتغيير أساليبنا القديمة، وهذا يمثل درجة من التغيير قد تبدو مربكة أو تتجاوز مستوى التزامنا.
إلى أين المســير؟
 يقول «إريك جينسن»: إذا أردت أن تصلح سيارتك فإنك ستتوجه إلى الميكانيكي، وإذا أردت أن تحصل على استشارة قانونية، فإنك ستذهب إلى المحامي، لماذا؟ لأن هؤلاء هم أصحاب الاختصاص في مجالهم، فإذا كانت لديك مشكلة في فهم كيفية حدوث التعلم في الدماغ فإلى من تذهب؟ هل تذهب إلى علماء الأعصاب وعلماء التشريح؟ فهؤلاء لا يتفقون على جواب، هل تذهب إلى علماء النفس والتربية؟ إن هؤلاء لا يعرفون أيضًا كيف يعمل الدماغ، هل تذهب إلى المعلمين؟ أغلب الظن أنك لن تذهب إليهم، لأنهم غير مختصين في هذا المجال، وعلى الرغم من ذلك فإن ملايين الآباء والأمهات يرسلون أبناءهم يوميًا إلى المعلمين ليعلموهم.
دفاعًا عن المعلمين فإننا نقول أنه حتى علماء الأعصاب لا يزالون مختلفين فيما بينهم حول بعض العمليات الداخلية التي تجري في الدماغ، كما أن معظم كليات التربية تقدم مساقات في علم النفس وليس في علم الأعصاب، كما أن التدريب أثناء الخدمة يوجه نحو أعراض المشاكل وليس نحو المعرفة المتعلقة بطريقة عمل الدماغ.
فإذا سلمنا أن كل من ذكرناهم لا يعرفون كيفية عمل الدماغ، ولا كيف يتعلم؟ فمن الذي يعرف؟ لا أحد يستطيع أن يعطيك جوابًا قاطعًا وكل ما نستطيع قوله: إنه على الرغم من وجود أسئلة حول الدماغ تنتظر إجابات شافية، فإننا نملك الآن معلومات كافية لمساعدة المعلمين على أداء عملهم بشكل أفضل، فقد كشفت الأبحاث حتى الآن عن حقائق مذهلة في كيفية عمل الدماغ، وكيف يعمل؟
إن سؤالًا مثل: ماذا يحدث داخل الدماغ؟ هو سؤال ينطوي على فضول إنسانى مشروع، وهو سؤال يعد جوابه في غاية الأهمية لتحسين التعليم والتعلم، وكما يقول Hart: «على الرغم من أن ما نعرفه الآن أقل بكثير مما يمكننا أن نعرفه، وما نرغب في معرفته، فإننا نعرف ما يكفى لتغيير طرقنا، ويمكننا أن نفعل ذلك بدون أن ننظر إلى معرفة كل شيء عن بيولوجيا الدماغ».
دور المعـلم
بينما يزداد عدد المربين الذين يعرفون عن التعلم المنسجم مع الدماغ أكثر فأكثر، يتعين على كل معلم أن يبتدر نفسه بقائمة من الأسئلة: نحن الآن نعرف كثيرًا من خلال معلومات موثقة عن كيف نهيئ بيئة تعليمية أفضل؟ وكيف نخطط لأساليب تقويم أفضل؟... إلخ. كما يتعين على المعلمين أن يشاركوا بوصفهم أشخاصًا محترفين في أبحاث إجرائية، فمثلًا، هل هناك نوع معين من الإيقاع يحفز الدماغ على كتابة الشعر: قسم طلاب صفك إلى مجموعتين وحاول أن تعرف إجابة هذا السؤال من خلال تعريض إحدى المجموعتين لإيقاعات، ومنعها عن الأخرى، وحاول أن تعرف الإجابة عن هذا السؤال: هل تخفيض التهديد والتوتر يشجع على المشاركة؟ قسم طلاب صفك مجموعتين: مجموعة التوتر المنخفض، ومجموعة التوتر المعتدل، وجرب، وهل ممارسة الحركة أثناء التعلم تفيد في عمل الدماغ واحتفاظ الطلاب بالتعلم؟ قسم طلاب الصف مجموعتين، مجموعة تتعلم مع الحركة، ومجموعة بدونها وجرب، إلخ.
إن معرفتك لمعلومات مهمة عن كيفية أداء عملك أو وظيفتك لم يعد عملًا اختياريًا، هل لنا أن نقترح أن تصبح معرفة أبحاث الدماغ الحالية وعلاقتها بالتعلم متطلبات أساسية بالنسبة للمربين؟ أنت - كمعلم - لا تحتاج لأن تكون عالمًا بيولوجيًا أو عالمَ أعصابٍ لكى تستوعب هذه المفاهيم الأساسية، تجنب الانشغال بالمصطلحات الفنية، أو العمليات العصبية التخصصية - فماذا عساك أن تفعل:
أولًا: كن أكثر معرفة بالدماغ من خلال معرفتك بالأفكار والمبادئ الرئيسة المتعلقة به.
ثانيًا: استخدم ما عرفته بالسرعة التي يمكنك من خلالها أن تقدم أفضل أداء.
ثالثًا: ابدأ بالتغيير على مستوى المدرسة، وعلى مستوى المنطقة التعليمية.
إن هذه المعلومات ليست صرعة أو ورشة عمل لتطوير الموظفين تستغرق يومًا واحدًا، وينتهى الأمر عند هذا الحد، بل يجب أن تكون قوة مستمرة توجهك يوميًا في عملية اتخاذ قراراتك، وفي إشراك الزملاء من المربين في عملية التغيير، عن طريق تزويدهم بمواصفات التعلم المنسجم مع الدماغ، والمساعدة في تدريبهم، والحوار معهم، والكتابة اليومية، وإجراء التجارب... إلخ.
يقول إريك جينسن: إن ورشة واحدة عن التعلم المنسجم مع الدماغ، قد عايشتها عام 1980، كان لها أثر قوي جدًا علي?' حتى اليوم، لدرجة أننى وبعد عقدين من الزمن تقريبًا، يمكننى أن أتذكر ما دار فيها، كما أنني لازلت أستخدمها، بدون شك. إن محتوى الورشة والأنشطة والعمليات التي قُدمت رسخت في دماغى بعمق، إذ إن المقدمين في تلك الورشة فهموا بوضوح، وعرفوا كيف يستخدمون مبادئ مهمة عن التعلم والدماغ. بعد ذلك اليوم، أصبحت شديد التحمس لدرجة أننى قررت أن أتبادل حماسى هذا مع آخرين، وكان رد فعلى الأول هو: لماذا لا يكون لدى طلابي مثل هذا النوع من الخبرة التعلمية كل يوم؟ لقد كان هذا السؤال متواضعًا وواعدًا في الوقت نفسه.
وُجـد ليبقـى
ومن الأمور الجديرة بالتسجيل في هذا السياق هي أن التعلم المنسجم مع الدماغ، على الرغم من أنه لن يقدم علاجًا لكل شيء، فإنه لا يمثل صرعة تظهر بعض الوقت وتختفي، وإنما هو موجود ليبقى، كما أن إرهاصاته الأولى تراهن على أنه سيؤثر في كل شيء نعمله تقريبًا، بما في ذلك الإدارة التعليمية، وإدارة الصف، والمناهج الدراسية، وإستراتيجيات التدريس، وأساليب التقويم، بل إن هناك توقعات لا تخلو من المبالغة بشأن علم الدماغ، مفادها أن علم الدماغ والأعصاب سوف يستوعب جميع العلوم السلوكية والعلوم المعرفية، بل إن نتائج الأبحاث في علم الدماغ تشير إلى أنه ينبغى إعادة النظـر في سن التقاعد نتيجة العناية الصحية التي سيتمتع بها الأفراد، كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ستتحسن، نظرًا لعلاج كـثير من الأمراض، ومن خلال ربط نتائج أبحاث علم الدماغ بالعلوم البيولوجية والاجتماعية، وكذلك تحقيق استثمار أمثل للموارد البشرية والمادية، واستخدام مصادر المعرفة بطريقة فاعلة توفر الجهد والوقت والمال
المراجع:
- سكوت وات (2003): كيف تضاعف ذكاءك، الرياض، ط 1، مكتبة جرير.
- عبدالمحسن صالح، مستقبل المخ ومصير الإنسان،، الكويت، عالم الفكر. ص 134، 135.
- علي الحمادي، حقنة الإبداع، طرق الإبداع الثمان، الرياض، دار ابن حازم. ص 35 - 37.
- إيريك جينسن (2003): كيف نوظف أبحاث الدماغ في التعليم، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع، ص128.
- السابق ص5.
- سوزان ج. كوفاليك، كارين د. أولسن (2003): تجاوز التوقعات، ترجمة مدارس الظهران الأهلية، الكتاب الأول، ط 1، الدمام. دار الكتاب التربوى للنشر والتوزيع، جـ 1، ص 3: 24.
- إدوار دي بونو (2007): كيف يعمل العقل؟ إبداعيًا - منطقيًا - رياضيًا، ترجمة مجدى عبد الكريم حبيب، ط 1، القاهرة، دار الفكر العربى، ص 24.
- ناديا هايل السرور (2003): مدخل إلى تربية المتميزين والموهوبين ط 4، عمان، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- سوزان ج كوفاليك وزميلتها، تجاوز التوقعات، ج 1.
- جينسن: 10،. إبراهيم الحارثي (2003): التفكير والتعلم والذاكرة في ضوء أبحاث الدماغ، ط 21، الرياض، مكتبة الشقري. ص54.
- سوزان ج كوفاليك وزميلتها، تجاوز التوقعات، 2003، ج1.

نظرية السجايا العقلية.. أن تتعلم بحب وأن تحب ماتتعلم

كثيرة هي التوجهات والتجديدات التربوية الحديثة التي تسعى حثيثًا لتلقي بظلالها على مفردات منظومة التعليم أو تضع بصماتها وتترك إشعاعاتها في عديد من الممارسات التربوية التي تدور رحاها داخل أروقة التعليم هنا أو هناك.
بعض هذه التجديدات تأتي من الآخر في محاولة لغرسها في تربة ثقافية مغايرة غير صالحة للاستنبات، وبعضها الآخر يأتي إلينا فنتقبله بقبول حسن ويمثل قيمة مضافة لنا وذلك لاعتبارات عدة من أهمها:
• أن هذه التجديدات تمثل مشتركًا إنسانيًا وتعكس مساحات التقاء ونقاط تماس وأرضية مشتركة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها.
  أن هذه التجديدات هي في الأصل نتاج لمنظومة القيم التي نؤمن بها ونعيش عليها، لكننا غضضنا الطرف عنها ولم نلتفت إليها، فقام غيرنا بتبنيها والاحتفاء بها ومعاودة تصديرها إلينا وهي في حقيقة الأمر «بضاعتنا ردت إلينا».
  أن التغيير سنة كونية وضرورة إنسانية، وحاجة اجتماعية، وإن قوة الأمم والشعوب أصبحت لا تقاس بحجم مساحتها، ولا بعدد سكانها، وإنما بقدرتها على سرعة الاستجابة للتغيرات والتكيف معها، غير أن الحكمة تقول: امنحني الشجاعة لأغير الأشياء التي يجب أن تتغير، وامنحني القوة كي أكون قادرًا على احتمال ما لا يتغير، وامنحني الحكمة، لأكون قادرًا على أن أوزان بين ما يقبل التغيير، وما لا يقبل. أجل، نحن في حاجة إلى التحلي بإقدام الشجاعة، وقوة التحمل، وحكمة التوازن.
 لا يكفي أن تكون التربية ومؤسساتها المختلفة انعكاسًا لثقافة مجتمعها فقط، وهو ما يمثل ثوابت «الأصالة» على أحد طرفي المعادلة التربوية/ الثقافية، بل يجب أن تكون هذه التربية انعكاسًا لظروف عصرها أيضًا، وهو ما يمثل متغيرات (المعاصرة) على الطرف الآخر من المعادلة، بعيدًا عن انكفاء الذات، والعيش على آثار الماضي واجتراره وحتى يكون لنا التأثير الفاعل في مجريات الأحداث المعاصرة في عالم المنافسة العالمية والثورة التكنولوجية(1).
  أصبح التجديد التربوي في التعليم ضرورة لا جدال فيها، واختيارًا صفريًا لا خيار لنا فيه، لما تفرضه مطالب التغير الاجتماعي وتحديات العصر الحديث، باعتبار أن التغير الإيجابي في التربية مطلب حضاري عاجل لا يحتمل التأجيل (2). فإذا كان البعض على صعيد السياسة يقول : إننا في مرحلة ثورية تتطلب تغييرات جذرية، فإما أن نقوم بها أو تفرض علينا، فإننا على صعيد التربية نقول: إننا في مرحلة تتطلب منا القيام بتغييرات جوهرية، فإما أن نقوم بها، وإلا سيدهمنا الطوفان.
والتعليم بكل مفرداته يخضع لقوانين التغير المتلاحقة، فلا التلميذ ثابت على حاله، ولا البيئة ساكنة دون حراك، ولا المجتمع جامد في مكانه، ولا الثقافة صلبة متحجرة، ولا نظريات التعليم باقية على حالها، حتى قال أحد المفكرين متندرًا، إن كل شيء حوله يتغير بسرعة رهيبة، لدرجة أنه يخشى أن ينام في يوم من الأيام، فيستيقظ من نومه، فيجد أنه نفسه قد تغير، فلا يدرك من هو، ولا في أي مكان يكون، مما يؤكد أن عملية التجديد أمر لا مفر منه، وواقع لا غنى عنه.
إن قضية التجديد التربوي من أجل تعليم المستقبل هي أولًا وقبل كل شيء، قضية تجديد للفكر والنفس، باعتبارها مسألة وعي ذكي، وقيم إيجابية، وطموح إنساني، لتحريك الواقع التعليمي بمشكلاته، واختلال توازناته، ومواقع اختناقاته حيث لا تتحقق فاعلية الذات الإنسانية وتجديدها دون تفعيل قوة إرادتها التجديدية في التعليم والمجتمع (3).
وفي مقدمة صور التجديد التربوي التي ستلقي بظلالها على كل مفردات منظومة التعليم في بلادنا العربية تأتي نظرية السجايا العقلية كواحدة من أهم التجديدات التي يمكن استثمارها للتأثير في المخرجات التعليمية على كل الأصعدة، ومع كل المراحل التعليمية، من رياض الأطفال وحتى الجامعة، بل يمكن الانطلاق بها خارج أسوار المدارس والجامعات، لولاة الأمور في البيوت لتربية أبنائهم، وللأفراد العاديين للنهوض بكفاياتهم والارتقاء بأدائهم في ممارساتهم في الحياة.
لقد نسفت هذه النظرية كثيرًا من مقولات التربويين الغربيين الذين يثبتون فكرة «عدم الثبات» في كل ما يتصل بآليات التربية واستراتيجياتها. إذ التغير في كل شيء عندهم هو الأساس. تأتي هذه النظرية لتنسجم وتتماهى مع مبادئ التربية الإسلامية التي تؤمن بوجود أطر ثابتة مع وجود المرونة والتغير في الآليات والأساليب التي تعمل ضمن تلك الأطر.
لقد أولت تلك النظرية اهتمامها بالجانب الوجداني من التفكير، وهو ما يمثل مساحة مسكوت عنها في كثير من ممارساتنا التربوية رغم ما له من أهمية بالغة في حياة المتعلمين. كما اهتمت تلك النظرية أيضًا بإحكام الصلة بين الجوانب الفكرية والوجدانية والمهارية بما يتفق مع طبيعة المتعلم باعتباره محصلة قوى متلاقية هي قوى الفكر والروح والجسم في نسيج محبوك لا تستبين لحمته من سداه.
كذلك أعادت النظر في المعرفة، فالمعرفة الجيدة هي المعرفة النافعة، المعرفة الجيدة هي المعرفة القابلة للتطبيق، أما المعرفة الخاملة فهي معرفة باردة لا يمكن الإفادة منها أو التعويل عليها، ومن ثم تقفز بنا النظرية إلى تجاوز فكرة استهلاك المعرفة أو مجرد حيازتها، إلى إنتاج المعرفة وإعادة توظيفها من جديد.
كما أعادت نظرية السجايا العقلية توصيف مفهوم الذكاء، ونقله من ذكاء للتحصيل يرمز إليه بـ IQ «Intelligence Quotient» إلى النظر إليه باعتباره قدرة على تقديم نواتج مفيدة وحلول للمشكلات أو التحول من النظر لذكاء المختبر باعتباره قدرة تحت الطلب، إلى النظر إليه نظرة متمركزة حول السلوك الذكي الذي نستصحبه معنا في كل ممارساتنا اليومية في واقع الحياة.
كما أكدت نظرية السجايا العقلية فكرة توظيف حواس الإنسان في عملية التعليم باعتبارها طاقات ونوافذ للمعرفة، وكذلك حب الاستطلاع والشغف بالتعلم، بالإضافة إلى قائمة طويلة من عادات العقل وسجاياه مثل الاستجابة بإعجاب وإجلال، والاستماع بتعاطف، والبحث عن الدقة والوضوح. والانفتاح على التعلم التعاوني والتعلم المستمر، والإقدام على مخاطر مسؤولة، والبحث عن الظرف والدعابة، والتساؤل وطرح المشكلات، والتفكير حول التفكير وغيرها من باقي السجايا العقلية التي سنعرض لها بمزيد من التفصيل عبر تضاعيف هذه الورقة.  
السجايا العقلية وإشكالية المصطلح
المفهـــوم:
عندما نعود لا نعرف ما علينا أن نفعل، نكون قد بدأنا علمنا الحقيقي، وعندما نعود لا نعرف أي طريق نسلك تبدأ رحلتنا الحقيقة فالجدول الذي تكثر في مجراه العوائق، هو الذي يصدح بأجمل ألحان تدفق الماء وانسيابه، والعقل الذي يواجه التحديات هو العقل الذي يتسم بالتجديد والإبداع.
من هنا يرى كوستا وكاليك (2000) أن النظم التقليدية في التعليم تركز على النتاجات المجددة ذات الإجابة الصحيحة فقط، في حين أن السجايا العقلية تسمح للطالب بمرونة البحث في الإجابة عندما لا يتمكن من معرفتها، ومن ثم جاء تعريف كوستا للسجايا العقلية بأنها نزعة الفرد إلى التصرف بطريقة ذكية عند مواجهة مشكلة ما، أو موقف محير أو لغز عندما تكون الإجابة أو الحل غير متوافر في بيئته المعرفية، أو هي العادات التي تدير وتنظم وترتب العمليات العقلية، وتضع نظام الأولويات السليمة لهذه العمليات فتساعد في تصحيح مسار الإنسان.
أما نوفل فيعرفها بأنها مجموعة المهارات والاتجاهات والقيم التي تمكن الفرد من بناء تفضيلات من الأداءات الذكية بناء على المثيرات والمنبهات التي يتعرض لها، بحيث تقوده إلى انتقاء عملية ذهنية أو أداء سلوك من مجموعة خيارات متاحة أمامه لمواجهة مشكلة ما بفاعلية والمداومة على ذلك.
السجايا العقلية حبل ذهني
أما هوريسمان فيشبه السجية العقلية بالحبل الذهني. الحبل الذي تنسج في كل يوم خيطًا من خيوطه، وفي النهاية لا تستطيع قطعه، ومن ثم فهو يرى أن السجايا العقلية عملية تطويرية متتابعة، تؤدي في النهاية إلى الإنتاج والابتكار، وتتكون السجية العقلية من عدد من المهارات والاتجاهات والقيم والميول والخبرات السابقة. فالسجية تشير هنا إلى أننا نفضل نمطًا من التصرف الفكري على غيره من الأنماط، وهي بهذا المعنى تتضمن عملية اختيار أو انتقاء من بين عناصر موقف ما، بناء على مبدأ أو قيم معينة يرى الشخص أن تطبيق هذا النمط في هذا الوقت مفيد أكثر من غيره من الأنماط، ويتطلب ذلك مستوى من المهارة في تطبيق السلوك بفاعلية والمداومة عليه. (كوستا وكاليك 2000).
أما بيركنز فيرى أن السجايا العقلية: نمط من السلوكات الذكية يقود المتعلم إلى أفعال إنتاجية، لذا فإن السجايا العقلية تتكون نتيجة لاستجابة الفرد إلى أنماط معينة من المشكلات والتساؤلات، شريطة أن تكون حلول المشكلات، وإجابة التساؤلات تحتاج إلى تفكير وبحث وتأمل.
السجايا العقلية أنماط ذهنية
ويشير كل من فيورشتين وإنيس إلى أن السجايا العقلية هي تركيبة تتضمن صنع اختيارات حول أي الأنماط للعمليات الذهنية التي ينبغي استخدامها في وقت معين عند مواجهة مشكلة ما، أو خبرة جديدة تتطلب مستوى عاليًا من المهارات لاستخدام العمليات الذهنية بصورة فاعلة وتنفيذها والمحافظة عليها وهي القدرة على التنبؤ من خلال التلميحات السياقية بالوقت المناسب لاستخدام النمط الأفضل والأكفأ من العمليات الذهنية عن غيره من الأنماط عند حل مشكلة أو مواجهة خبرة جديدة، وتقييم الفرد لفاعلية استخدامه لهذا النمط من العمليات الذهنية دون غيره، أو قدرته على تعديله، والتقدم به نحو تصنيفات مستقلة.
وكنتيجة للأبحاث التي أجراها كل من جولمان (Goleman) وبيركنز (Berkins)  وجلاتورن وبراين (GlathornBrain)  فإن السجايا العقلية تشير إلى اعتماد الفرد على استخدام أنماط معينة من السلوك العقلي، يتم خلالها توظيف العمليات والمهارات الذهنية عند مواجهة خبرة جديدة أو موقف ما، بحيث يحقق أفضل استجابة وأكثرها فاعلية، وتكون نتيجة توظيف مثل هذه المهارات أقوى وذات نوعية أفضل وأهمية أكبر وسرعة أكثر عند حل المشكلات أو محاولة السيطرة على خبرة جديدة.
كثيرة هي المصطلحات التي يعج بها المشهد التربوي وأدبياته والتي تنظر إلى السجايا العقلية من زوايا مختلفة، وتخلع عليها تسميات متعددة، على أن الملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا، هي أن لهذا التعدد ما يبرره، إذ إن لكل من يدلو بدلوه في هذا المجال وجهة هو موليها، ومن ثم، فالاختلاف هو اختلاف تنوع وثراء وليس اختلاف تناقض أو تضاد.
من أهم هذه التسميات التي أطلقت على السجايا العقلية ما يلي:
• السلوكات الذكية.
• الفضائل العقلية.
• السمات العقلية.
• الأنظمة العقلية.
• العادات العقلية.
• السجايا العقلية.
• الميول الفكرية.
• عواطف التفكير أو روح التفكير.
على أن الملاحظ على هذه التسميات هو أنها جميعًا تدور حول الجوانب الوجدانية من التفكير، كما أنها تظهر في صورة سلوك أو موقف أو اتخاذ قرار وليس في صورة تحصيل أو استيعاب. لذا فمن الأهمية بمكان أن يتحلى بها المعلم، حتى يتمكن من غرسها في فكر ووجدان طلابه.
كما أن هذه السجايا تمثل واسطة العقد في الربط بين النواحي المعرفية والمهارية والوجدانية، في وقت تلقى فيه الجوانب الوجدانية غيابًا وتهميشًا في جل ممارساتنا التربوية، ومن ثم فإن الاهتمام بهذه السجايا والتكريس لها في مفردات منظومة التعليم، يعد ضروريًا لإحكام الصلة بين هذه الجوانب مجتمعة.
على أن ما نود التعليق عليه هنا هو واحد من أهم المترادفات التي أطلقت على «السجايا العقلية» وهو مصطلح «العادات العقلية» إذ يبدو للوهلة الأولى أن المصطلح ينطوي على تناقض في داخله، إذ كيف نجمع بين التفكير الواعي الذي ننـادي بضرورة التحلي به، وفي الوقت نفسه نتكلم عن «العــادة» التي غالبًا مـا تقع من الإنسان بشكل آلي دون تفكير واع.
والحق أن ثمة فرقًا واضحًا بين إدارة العمليات العقلية، وبين التفكير الذي يجري في العملية العقلية نفسها. فعندما نقول: إن محمدًا قد اعتاد الدقة في كتابة موضوعات التعبير، فكأننا نقول إن هناك روتينًا لكتابة موضوعات التعبير. إن مثل هذا الروتين لا يستدعي تفكيرًا، ولكنه أصبح عادة عقلية لدى محمد. ولكن عملية الدقة في الكتابة نفسها تحتاج إلى انتباه وتفكير واع في محتوى الموضوع المكتوب، من حيث مراعاة القواعد اللغوية ودقة الصياغة وترتيبها وتسلسلها، وخلو الكتابة من الأخطاء الإملائية.. إلخ. كما هو الحال في قيادة السيارة، فالسائق يقوم بها بشكل روتيني من حيث الترتيب، ولكنه ينبغي أن يكون واعيًا ومنتبهًا في كل عملية من هذه العمليات وإلا فقد السيطرة على السيارة (4).
على أن المترادفات الكثيرة التي طالت التسمية الأم.. السجايا العقلية قد امتدت للسجايا نفسها، فوجدنا لكل واحدة من هذه السجايا عددًا من المترادفات التي تدل عليها، بما يعطي إضاءة لمن يقومون بمعالجة تلك السجايا ليتمكنوا– وبقدر من السعة والمرونة – من معالجتها، والتأمل في السلوكات الوجدانية الفكرية الدالة عليها.
السجايا العقليـة.. لماذا ؟!
في رائعة تشارلز ديكنز «أوقات عصيبة» عن الثورة الصناعية ترد هذه العبارة على لسان السيد «جراد جرنيد»: ما أريده هو الحقائق لا تعلموا هؤلاء الأولاد والبنات سوى الحقائق، فهي وحدها المطلوبة في الحياة، لا تزرعوا غيرها واجتنبوا ما عداها. لا نستطيع تشكيل العقول إلا على أساس من الحقائق. ولا شيء غير ذلك سيكون مفيدًا لهم.
ولا شك أن السيد جراد جريند، ناظر المدرسة العابس يؤمن بأن فلسفته التعليمية متنورة مثل المزاج الجديد الذي جاء مع حلول القرن التاسع عشر رافعًا شعار: أشعل النار في فرن العقل بالحقائق وسرعان ما تتدفق المعرفة! لكننا نعلم مثلما علم ديكنز أن النظرة إلى التعليم إذا قامت على أساس من إجراءات التصنيع الموحشة واللاإنسانية، فلن تكون إلا نموذجًا سيئًا للتعليم والتعلم. تاريخيًا أثر هذا النموذج في التعليم إلا أن معظم المربين قد تحولوا نحو التأكيد على المهارات والقدرات التى ترتكز على الشخص نفسه، فعلى عكس السيد جراد جريند نريد في أيامنا هذه أن نعلم الطلاب كيف يفعلون الأشياء، وليس فقط ما يجب أن يعرفوا.
على أن الأهداف التعليمية أخيرًا اتسمت بتوسيع نظرة التعليم المرتكز على المهارات، لتصبح نظرة أكثر شمولًا وتكاملًا، بحيث تركز على تعليم سلوكات فكرية ذكية عالية المستوى، إنها تتضمن مهارات إلا أنها تشمل أيضًا مواقف وحوافز وعواطف وعناصر أخرى كانت تترك خارج دائرة التركيز على المهارة في التعليم.
ثمة كتاب مختلفون اقترحوا قوائم مختلفة قليلًا لأهم عشرة سلوكات فكرية (سجايا عقلية)، مع إطلاق أسماء بديلة عليها، مثل عادات العقل، أو الميول الفكرية، وكان من أهمها (حب الاستطلاع – المرونة – طرح المشكلات – الإقدام على المخاطر – الدقة – الوضوح... إلخ).  وتمثل هذه السجايا نظرية تعليمية وفلسفة حول ماذا يجب أن يتعلم الناس؟ وكيف؟
والحق أن هناك أربع سمات أساسية للسجايا العقلية، إذا ما درست معًا، فستقدم جوابًا مقنعًا للسؤال المركزي وهو: لماذا نعلم السجايا العقلية؟
إفساح المجال للعواطف
تولي السجايا العقلية أهمية كبيرة للعواطف والذكاء العاطفي وأثره في سلوك الإنسان، وطريقته في التفكير. فإذا سلمنا بأن الميل أحد صفات السلوك الذكي، نجد أن ارتباط العواطف بالميول يأتي نتيجة طبيعية لنظرية الذكاء المتمركز حول السلوك، أكثر من نظرية الذكاء المتمركز حول القدرات. فالميل هو شعور بالانجرار من قبل شيء ما، أو رغبة في الوصول إلى نتيجة ما، أو دافع للتصرف على نحو ما. وإذا كنا نعرف الذكاء على أنه كيف نشعر بالميل نحو التفكير؟ وليس مجرد: كيف نستطيع ممارسة التفكير، فإن ارتباط العواطف بالميول يصبح جزءًا من مفهوم الذكاء.
كما تهتم السجايا العقلية بالعواطف عن طريق الاهتمام بعدد من السلوكات الفكرية، والالتزام بالكفاح من أجل تحسينها. فالاعتقادات والالتزامات المشحونة بالعواطف، هي المحرك الرئيس لمتابعة المعرفة وتطبيقها وهي ما يطلق عليه عالم النفس «ر. س بيت رز» «العواطف العاقلة»، وهي تتضمن عواطف: حب معرفة الحقيقة واتباعها، وحب الدقة، وبغض عدم الأمانة الفكرية. إنها عواطف صادقة، لأنها تدخل إلى عمق الشعور وتؤدي دورًا مهمًا في تحفيز السلوك. وقد لاحظ الفيلسوف «شيفلر» أن العواطف العاقلة تسهم في تكوين الضمير الفكري الذي يوجد على شكل اهتمام عميق بأن يكون المرء صادقًا – على قدر الإمكان – تجاه الحقيقة، وانزعاج من الزيف وعدم الأمانة الفكرية. فبدون الضمير الفكري يصبح الذكاء أعمى.
كما تقدر السجايا العقلية دور العواطف في الذكاء من خلال اهتمامها بالتقمص أو الاعتناق العاطفي، وهو يعني أخذ مشاعر الآخرين بطريقة خيالية، أو استخدام الإنسان لمشاعره في تعرف الأشياء، وهو يتطلب الاستماع للآخرين بتعاطف. ففي كثير من الأحيان تصبح المعرفة شعورًا، حيث تتمثل معرفة شيء ما في الإحساس به بصورة سليمة أو في تذوقه، وفي الماضي قال علماء المسلمين في بعض أنواع المعرفة: من ذاق عرف.
إن بعض أنواع المعرفة لا يمكن أن يفهم بالوصف أو الشرح، مهما استخدمنا من وسائل إيضاح، والطريقة الوحيدة لفهمها وإدراكها هي الإحساس المباشر.
تمعن في محاولة فهم تجربة أصحاب النبي المهاجرين إلى الحبشة، هل يمكن معرفة قصتهم بشكل سليم دون الإحساس بمشاعر مشابهة لتلك التي أحسوا بها. أو تقمصوها عاطفيًا؟ وهل يمكن – أيضًا – معرفة هذه القصة بدون الشعور التخيلي لحالة هؤلاء عندما دخلوا – لأول مرة – بلدًا بدا لهم كل شيء فيه غريبًا , وقد تركوا الوطن والديار والأهل والأموال؟ وباختصار فإن فهم تجربة هؤلاء المهاجرين يقتضي الإحساس بها.
والحق أن الزعم بأن الشعور هو طريقة من طرق المعرفة أمر يتعارض مع النظرة المعيارية للمعرفة العلمية، التي تقول بأن المعرفة موضوعية، ولا يمكن فهمها إلا بالفكر المحض، ولم يعد معظم المربين المعاصرين يتمسكون بصحة هذا الرأي، بل وجهوا انتقادات حادة لهذه النظرة الجافة للمعرفة، على الرغم من أنها مازالت سائدة في الممارسات والنظم التعليمية(5)
حتى لقد دعا بعض المفكرين إلى أن حاجتنا تتنامى وتصبح أكثر إلحاحًا في هذا العصر إلى «الذكاء الروحي» الذي يشير على وجود ارتباط بالطاقة الكونية The Universal energy، أو الطاقة الفاعلة في هذا الكون بطريقة لا يمكننا توضيحها أو شرحها. وأن هذه الروحانية تتولد من الارتقاء على أشكال الذكاء الأخرى، كما جاء وصف كل من Billen,1996   وRedfield 1994  للعصر الحالي بأنه عصر الوعي أو الشعور. والحق فإن الذكاء الروحي يمكن التفكير فيه على أنه جزء من الوعي أو الشعور.
مراعاة الحساسية الفكرية:
تقدر السجايا العقلية الحساسية الفكرية وتؤكد أهميتها كعنصر فاعل من العناصر المشكلة للسلوك الذكي. وتنطوي الحساسية على إدراك الفرص والمناسبات التي يرغب الفرد في المشاركة فيها بسلوكات فكرية ملائمة. ومن الأمثلة على ذلك: إدراك الفرصة التي ينبغي للفرد أن يفكر فيها بنوع من المرونة العقلية، أو لطرح أسئلة (متى يسأل؟) أو للاستماع بتعاطف (متى يستمع بتفهم واهتمام؟) أو الإقدام على مخاطر مسؤولة، أو مقاومة الاندفاع (متى يُقدم؟ ومتى يُحجم؟ وأي الموضوعات تستحق الإقدام؟ وأي الموضوعات تتطلب التروي؟).
يركز المربون المهتمون بتعليم التفكير على زرع أنماط من السلوكات الفكرية لدى الطلاب، وهذا يعني الاهتمام بناحيتين للسلوك الفكري هما: الدافعية والقدرة العقلية، أو بعبارة أخرى: الإرادة والمهارة الفكرية، ولكنهم يهملون الحساسية الفكرية، وكأنها أمر مفروغ منه. فعلى الرغم من عدم وجود من يجادل نظرية تقول: إن من المهم ملاحظة المناسبات التي تتيح الفرصة للتفكير مع ذلك، لا نولي أهمية للحساسية الفكرية التي بموجبها نحدد ونختار النمط الفكري الملائم للحالة الراهنة.
وتؤكد الأبحاث الجارية أن الحساسية تؤدي دورًا مهمًا في التفكير الفاعل أكبر بكثير مما يتوقعه المرء، وغالبًا ما يواجه الطلاب شيئًا من الصعوبة في ملاحظة الفرص المتاحة للتفكير بصورة نقدية وخلاقة، عندما تتوفر هذه الفرص في مجرى الحياة اليومي، حتى لو كانوا يمتلكون الإرادة والمهارة الفكرية لفعل ذلك (6)
لقد كشفت سلسلة من الدراسات عن بعض القضايا المتعلقة بالحساسية، كان من أهمها أن الطلاب كثيرًا ما يفشلون في القيام بالتفكير الفعال والجيد أو أفضل تفكير لديهم، ليس لعدم قدرتهم عليه، ولا لعدم رغبتهم فيه، ولكن لعدم تمكنهم من تحديد الفرصة المناسبة لذلك.
كما أكدت الدراسات أنه لا يوجد معامل ارتباط عال بين الحساسية الفكرية واختبارات الذكاء، مما يعزز الاعتقاد السائد بأن اختبارات الذكاء لا تقيس جميع العوامل المتعلقة بالذكاء.
إن تعليم الحساسية يعني تعليم الطلاب كيف يلاحظون؟ ومتى يلاحظون؟ ومتى يستخدمون سجايا العقل دون أن يطلب منهم ذلك؟ كما يعلمهم اصطياد الفرص الملائمة لطرح السؤال دون أن يشار إليهم بذلك، وأن يدركوا ضرورة القيام بالمثابرة والمواظبة على الأعمال، دون أن يحدد لهم متى يواظبون؟ وأن تتكون لديهم حساسية معينة تجاه الحاجة إلى الدقة، بدلًا من حث الطلاب على مراعاة الدقة.
مراعاة الفروق الفردية والميول الخاصة:
تركز النظرة التقليدية للذكاء على المجال المعرفي المتمثل في تصنيف بلوم للمهارات المعرفية، وتفترض هذه النظرية للذكاء، والمتمركزة حول القدرات العقلية وجود علاقة بين القدرة العقلية والفعل. وبعبارة أخرى، فإنها تفترض أن الشخص الذي يفكر بطريقة جيدة، يمكن أن يعمل بطريقة جيدة أيضًا.
على أننا نلاحظ – في الحياة اليومية – أناسًا يمتلكون قدرات عقلية جيدة ولكنهم لا يستخدمونها، وإن استخدموها فإنهم لا يحسنون استخدامها وعلى سبيل المثال: هناك أشخاص قادرون على اتخاذ قرارات ذكية، ولكنهم يفتقرون إلى العزم على تنفيذها. وكثير من الناس لديهم القدرة على المثابرة والمواظبة، ولكنهم يفتقرون إلى الإرادة القوية التي تجعلهم يثابرون على أعمالهم وهناك أشخاص لديهم القدرة على تحديد المشكلة، ولكن لا توجد لديهم الشجاعة أو الدافعية أو الإرادة لحلها. وهكذا نرى أن القدرات العقلية وحدها تبدو جافة وشبه ميتة، ما لم تتوفر العواطف، والدافعية، والإرادة التي تبعث فيها الحياة، وتنقلها من دائرة الفكر إلى دائرة العمل، أو تنقلها من مستوى القوة إلى مستوى الفعل (7)
لذلك نجد أن أنصار السجايا العقلية يرون أن تعريف الذكاء من زاوية القدرات العقلية، دون الاهتمام بالعناصر الأخرى التي تحيي تلك القدرات تجعله عاجزًا عن توليد الشرارة الإنسانية في النفس البشرية، ويطرحون نظرية جديدة للذكاء متمركزة حول السلوك والتصرفات، تعطي اهتمامًا بالفروق الفردية، وتنظر إلى الذكاء نظرة تتركز على الشخصية، وتحترم دور المزاج والاختلافات الفردية، وترى أن الذكاء عبارة عن ميل نحو شيء معين، والميل عبارة عن نزعة طبيعية للتصرف أو السلوك بطريقة معينة، لذا فإن النظر إلى الذكاء على أنه ميل، يعني أن يتم التعبير عنه في صورة أنماط من السلوك الذكي في مواقف الحياة اليومية. (8) 
هذا وتحترم السجايا العقلية الفروق الفردية من خلال تأكيد الخصائص السلوكية العامة بمفهومها الواسع، الذي لا يتقيد بنمط أو مستوى معين من الذكاء، فعلى سبيل المثال نجد أن الفرد يمكن أن يعبر عن المرونة الفكرية بطريقة شفوية، أو حركية، أو موسيقية. ومن الممكن تطبيق المثابرة واقعيًا تحت ظروف مختلفة، كما يمكن طرح الأسئلة على شكل كلمات، أو صور، أو حركات، أو ألحان موسيقية (Costa & Kallick, 2000).
تحقيق النظرة التكاملية للمعرفة:
حيث تهتم السجايا العقلية بالسلوكات الفكرية العريضة (العامة) التي تربط المواد الدراسية مع بعضها، كما تربط بينها وبين أنشطة الحياة اليومية. فعلى سبيل المثال نجد أن سجية المرونة الفكرية ضرورية لرؤية الأشياء من زوايا مختلفة وهي ضرورية – أيضًا – لفهم الأعمال الأدبية والفنية، كما أنها مهمة لتفسير الأدلة والظواهر العلمية، وكذلك هي مهمة في عملية اتخاذ القرارات، وهكذا الحال بالنسبة لسجية الاستماع بتعاطف، وغيرها(9).
وماذا بعد؟!
كثيرًا ما ترتد الأسئلة إلى نفسها، لذا فمع نهاية هذا الجزء نجده يعود إلى السؤال الذي بدأ به. لماذا نعلم السجايا العقلية؟
لذا نعود فنؤكد أن السمات الأربع التالية للسجايا العقلية على قدر كبير من الأهمية حيث:
ــ تنظر سجايا العقل إلى الذكاء نظرة تتركز على الشخصية، وتؤكد على المواقف وصفات الشخصية إضافة إلى المهارات المعرفية.
ــ تشتمل السجايا على نظرة إلى التفكير والتعلم وتضم عددًا من الأدوار المختلفة التي تؤديها العواطف في التفكير الجيد.
ــ تعترف سجايا العقل بأهمية الحساسية التي تشكل سمة رئيسة من سمات السلوك الذكي مع أنها لا تحظى كثيرًا بما تستحقه من اهتمام.
ــ تشكل سجايا العقل مجموعة من السوكات الفكرية التي تدعم الفكر النقدي والخلاق من خلال الموضوعات المدرسية.
وأخيرًا نقول : لو قرأ السيد جراد جريند هذا الجزء الذي تم عرضه لأصيب بخيبة الأمل، فنظرية السجايا العقلية ليست فلسفة حقائق، بل فلسفة إنسانية تحترم الآخرين وتعبر عن إيمان بقدرة الناس على تطوير فكرهم من خلال تأمل عقلاني وعاطفة صحيحة.
لماذا نعلم سجايا العقل؟ هنا أدعوكم لتقرروا بأنفسكم!!
السجايا العقلية وحب التعلم
إن جاز لنا أن نستلهم الكلمة الرائعة لطاغور شاعر الهند العظيم: نحن لا نفهم لأننا لا نحب، فإن لنا أن نضيف مقلوب الكلمة نفسها.. ونحن لا نحب لأننا لا نفهم. وفي النهاية سنكتشف أننا سنحتفظ فقط بما نحب، وسنحب فقط ما نفهمه، وسنفهم فقط ما يتم تعليمه لنا، أو تعلمنا له.
ومع السجايا العقلية سنكتشف أيضًا أن كل موضوع للعلم هو موضوع للحب والجمال، كل ما تحتاجه لتنشق آيات الجمال والجلال، هو النظر إلى الموضوع بحس ذوقك، إلى جانب عين عقلك... هو أن تتحرر من عبودية المنهج، وصرامة الأدوات، وجهامة التحليلات، بحيث تترك للذوق حرية العمل، وتترك للحس قوة النفاذ. ومهما كان الموضوع مغرقًا في ماديته، وليكن دراسة طبقات الأرض، فإن ثمة جمالًا نجده في تناسق ألوانه، في أقسامه، في تشكيلاته، في علاقاته بما يجاوره، بل في تاريخه وعلاقته بتاريخ الأرض، أو تاريخ الحياة فيها.
وهكذا يجتمع العلم والفن والجمال والحب في آن (10).
وفي وصفه لأفضل وأذكى (200) طالب من فريق الكلية الأكاديمية حسب تصنيف جريدة USA Todayيقول تريسي وونج بريجز (1999): إنهم مفكرون خلاقون يحبون ما يفعلون! إذ لا يكتفي الناس الفاعلون بتبني موقف: أنا أستطيع، بل يضيفون إليه موقف: أنا أستمتع. تجدهم يسعون إلى المشكلات ليحلوها لذواتهم وليقدموا تلك الحلول للآخرين. ويبتهجون لتمكنهم من وضع مشكلات ليحلوها بأنفسهم، وتبلغ متعتهم في مواجهة تحدي حل المشكلات ذروتها لدرجة أنهم يسعون وراء المعضلات والأحاجي التي يواجهها الآخرون ويستمتعون بإيجاد الحلول بأنفسهم، ويواصلون التعلم مدى الحياة.
لذا فنحن نريد طلابًا لديهم حب الاستطلاع والتواصل مع العالم من حولهم نريدهم أن يشعروا بالحماسة والمحبة تجاه التعلم والتقصي والإتقان(11).
وكما قيل فإن أجمل الحب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر.. ما أجمل أن نصادف الحب ونحصل عليه ونحن نبحث في ميادين العلم وحقول المعرفة. لنصل في نهاية المطاف إلى تحقيق «بهجة التعلم» بحسب التعبير الرائع لسيد عثمان.
لقد حاول أحد علماء النفس الهولنديين مؤخرًا معرفة الفرق الفاصل بين رتبتي سيد الشطرنج وسيد سيد الشطرنج، أخضع مجموعات من كلتا الرتبتين لجملة من الاختبارات: مستوى الذكاء IQ، والذاكرة والتفكير الاستنتاجي المكاني. لم يجدوا بينهم فروقًا تذكر، وفي النهاية وجد أن الفرق الوحيد بينهم هو أن سيد سيد الشطرنج يحب الشطرنج أكثر من سيد الشطرنج، إذ يشعر الأول بالعاطفة والالتزام نحو اللعبة. لذا نقول : إن العاطفة قد تكون مفتاح الإبداع. (ثورنتون 1999).(12)
إن وجود بيئة آمنة توفر حب الطلاب للتعلم هو الذي سيقود كل طالب لأن يفغر فاه ويبدي انبهاره ودهشته لما يتعلم. هو الذي سيقود خياله للتحليق عاليًا للاستكشاف وحب الاستطلاع والتأمل. إن المهم بالنسبة للتعلم ليس هو المحتوى بقدر ما هو المتعة والحماسة والحب والانبهار الذي يحس به الطلاب نحو المحتوى.
إن المعلمين الجيدين هم الذين يشعرون بالحميمية والحب تجاه أفكارهم وتعلمهم وعلاقاتهم بالطلاب.. ما يفعله هؤلاء أكثر من مجرد التعليم لوضع معايير قياسية، أو لاستعمال أساليب متفق عليها، بل إن علاقاتهم الصفية تتسم بالاهتمام والحماسة والحب. لقد ارتبط صقلهم المعرفي للمفاهيم واستراتيجياتهم التعليمية بروابط عاطفية(13).
إن دروسهم حيوية ومنعشة، يراهم طلابهم مسحورين ومفتونين ومستثارين حيال قضية أو مشكلة، بل يتيحون الفرصة للطلاب ليقاسموهم افتتانهم بالمحتوى.
لذا كان من الأهمية بمكان إتاحة الفرصة للطلاب لاكتشاف ما يأسر ألبابهم ويديم شغفهم بالتعلم بحيث لا يجد الطلاب حلولًا للمشكلات التي تمر بهم مع رنين الجرس، بل ينبغي منحهم الفرصة لأن يحملوا معهم حبهم للاستطلاع وغموضهم وعدم يقينهم إلى اليوم التالي أو الحصة التالية.
وهي سجية من سجايا العقل التي تقطف أكثر مما تتعلم. إن العناية بوجود خط وجداني في عملية التعلم هو ما يعكس – بامتياز – روح التربية وتربية الروح في زمن يموج بماديته المتوحشة التي تلقي بظلالها على جل مفردات منظومة التعليم، وهو ما تنادي السجايا العقلية بمقاومته من خلال دعوتها للتعلم.. تعلم الحب انطلاقًا من الحب ذاته.. حب التعلم.


الهوامش
(1) جابر محمود طلبة (1999) التجديد التربوي من أجل جامعة المستقبل، ط 1، المنصورة مكتبة الإيمان للنشر والطبع والتوزيع، ص 18 – 20.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) المرجع السابق، ص 3.
(4) إبراهيم الحارثي (2002): العادات العقلية وتنميتها لدى التلاميذ، ط 1، الرياض، مكتبة الشقري، ص 12 – 13.
(5) إبراهيم الحارثي: مرجع سابق، ص 91 – 92
(6) آرثر ل كوستا، بينا كاليك (2003): استكشاف وتقصي عادات العقل، الكتاب الأول، ترجمة مدارس الظهران الأهلية، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع، ص 45
(7) إبراهيم الحارثي: مرجع سابق، ص 88.
(8) آرثل ل. كوستا، بيناكاليك : مرجع سابق، الكتاب الأول ص 43.
(9) المرجع السابق، ص 47.
(10) سيد أحمد عثمان: المسؤولية الاجتماعية والشخصية المسلمة، مكتبة الأنجلو، 1979.
(11) آرثر كوستا، بيناكاليك (2003) : مرجع سابق،الكتاب الأول، ص 33.
(12 ) ThorntonJ (1999, Jeanery 1 – 3) Getting inside your headHonolulu Advertiser USAWeek endMagazinePP. 8 - 9
(13) وودز وجيفري: لحظات يمكن تعلمها، نقلًا عن آرثر ل. كوستا وبينا كاليك (2003)، مرجع سابق، الكتاب الثاني ص 94.

أهم المراجع
 (1) إبراهيم الحارثي (2002): العادات العقلية وتنميتها لدى التلاميذ، ط 1، الرياض، مكتبة الشقري، ص 12 – 13.
(2) آرثر ل كوستا، بينا كاليك (2003) : استكشاف وتقصي عادات العقل، الكتاب الأول، ترجمة مدارس الظهران الأهلية، الدمام، دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع، ص 45.
(3) جابر محمود طلبة (1999) التجديد التربوي من أجل جامعة المستقبل، ط 1، المنصورة مكتبة الإيمان للنشر والطبع والتوزيع، ص 18 – 20.
(4) سيد أحمد عثمان: المسؤولية الاجتماعية والشخصية المسلمة، مكتبة الأنجلو، 1979.
(5) وودز وجيفري : لحظات يمكن تعلمها، نقلًا عن آرثر ل. كوستا وبينا كاليك (2003)، مرجع سابق، الكتاب الثاني ص 94.
(6 ) ThorntonJ (1999, Jeanery 1 – 3) Getting inside your headHonolulu Advertiser USAWeek endMagazinePP

نحو فلسفة إبداعية للتدريس




أيها السائر ... ليس هناك طريق، الطرق تصنع بالمشي، عبارة رائعة للشاعر الإسباني «أنطونيو ماتشادو» جالت بخاطري وأنا أرجع البصر كرتين في جدلية العلاقة بين المعلم والطالب في العملية التعليمية التعلمية، وموقع الطالب منها، ودور المعلم فيها، في ظل إفرازات العلم ومعطياته المرتبطة بالمشهد التربوي الراهن، وتماهيًا مع الحكمة التربوية الرائعة التي تقول: «المعلم الضعيف يلقن، المعلم المتوسط يفسر، والمعلم الجيد يعرض، والمعلم المتميز يلهم»، وطبقًا لمنطوق هذه الحكمة، فإن المعلم – بطبيعة الحال – يود أن يكون من النوع الأخير من هؤلاء المعلمين، وهو المعلم الملهم.

إذا كان المعلم الملقن – على سبيل المثال – يرى أنه الخازن للمعرفة، والأمين على أسرارها، ومن ثم يتم إخضاع الطالب – من خلاله – للمنهج، وليس إخضاع المنهج للطالب، لذا نراه يقوم بسرد المعلومات وصبها جاهزة في عقول الطلاب، وأنه أشبه ما يكون بأنبوب توصيل للمعلومات عن مصادرها (الكتاب ... إلخ)، إلى العقول، فإن المعلم الملهم يعطى الفرصة للطلاب للبحث والتنقيب والتقصي والاكتشاف، والتساؤل والتجريب، من خلال وضعهم في مواقف مشكلة تتحدى تفكيرهم، يبحثون عن حلول لها.
إنه المعلم الذي يسمح للخيال والإلهام أن يأخذا مكانهما في تعلم الطلاب، بما يجعلهم منتجين للمعرفة وليسوا مستهلكين لها، ومن ثم فهو مرشد ومثير للتعلم إذا لزم الأمر، وهو المعلم الذي يشبه الملك فرديناند الذي شجع (كريستوفر كولمبس) على اكتشاف العالم الجديد وعاونه بالسفن والمؤن والرجال. لذا نجد معلمنا هذا يشجع طلابه على اكتشاف المعرفة بأنفسهم ويقدم لهم العون والإرشاد عند الضرورة، حتى يجعل طلابه مثل (كريستوفر كولمبس) أحد رواد الكشف الجغرافي الذي اكتشف ما يسمى بالعالم الجديد (قارة أمريكا وما حولها من جزر)، فإذا كان كولمبس قد اكتشف قارة جديدة، فإن الطلاب يكتشفون ما يتعلمون من معرفة.
التعلم وتربية الأعماق 
«إذا تم كسر بيضة بوساطة قوة من الخارج، فإن حياة قد انتهت، وإذا تم كسر بيضة بوساطة قوة داخلية، فإن حياة جديدة قد بدأت ...الأشياء العظيمة تبدأ من الداخل».
ثمة توجه حديث يحول النظرة إلى التعلم بوصفه عملية «process» أكثر من النظرة إليه بوصفه مجرد ناتج «product»، وهو توجه يقف على طرف نقيض من نظرة السلوكيين الذين يرون أن العقل أشبه ما يكون بالصندوق الأسود «في الطائرة» الذي يسجل استجابات كمية لأحداث تقع خارجه، ولكنه يتجاهل أو يهمل إمكانية حدوث عمليات فكرية داخل العقل.
إننا هنا – في ظل التوجه البنائي – بصدد التحول من النظرة التلسكوبية التي ترى الأشياء عن بعد، إلى نظرة ميكروسكوبية ترقب عن كثب التفاعلات التي يشغى بها العقل البشري وتحدث داخله، وهي النظرة التي يتحول معها سلوك المتعلم من السلوك الاستجابي إلى السلوك الإيجابي، ومن النمطية والتكرار إلى الكشف والابتكار، ومن الاتباع والمسايرة إلى التجديد والمغايرة، ومن ثقافة الاستقبال والتسليم إلى ثقافة المحاكمة والتقويم، وباختصار.. إلى كثير من التعلم في مقابل قليل من التعليم.
مهمة التعليم – إذًا – في ظل التعلم البنائي، هي استخراج الداخل وليس استدخال الخارج، كالعنكبوت تنسج النسخ من داخلها لا من خارجها، وكدودة القز تحيك خيوطها من أعماقها، وكالنبات يبني غذاءه بنفسه من خلال عملية البناء الضوئي التي تتم داخل أوراق النبات.
نعم، يقول علماء النبات: إن النباتات تبني غذاءها بنفسها (من خلال عملية البناء الضوئي)، إذ يتم داخل أوراق النباتات تفاعل بين غاز ثاني أكسيد الكربون والماء في وجود الطاقة الضوئية التي يتم امتصاصها بوساطة مادة الكلوروفيل، وينتج عن هذا التفاعل: سكر الجولوكوز وهو غذاء النبات، والأكسجين. ويؤكدون أيضًا أن هذا الغذاء مهم جدًا لنمو النباتات ولقيامها بعملياتها الحيوية الأخرى، كالتنفس والإخراج ... إلخ.
ومن ثم فالإنسان لا يزود النباتات بغذائها، ولا يحدث النمو فيها، وإنما يقتصر دوره – إن وجد – على توفير المواد الأولية (ماء – أملاح ... إلخ) وعلى تهيئة الظروف المناسبة (ضوء – حرارة – رطوبة) التى تساعد النباتات على بناء غذائها وعلى نموها بذاتها.
فإذا كانت النباتات تبني غذاءها بنفسها، وأن دور الإنسان هو توفير المواد الأولية لها، وتهيئة الظروف المناسبة لتكوين غذائها ولنموها، فهل يمكن للطلاب أن يكونوا مثل النباتات، فيبنون معرفتهم بأنفسهم وبقليل من المساعدة والتوجيه من المعلم.
في ضوء التعلم البنائي – إذًا – يمكن القول:
- المتعلم لا يستقبل المعرفة ويتلقاها بشكل سلبي، لكنه يبينها من خلال نشاطه ومشاركته الفعالة، كما قلنا ونعيد القول: بكثير من التعلم وقليل من التعليم.
- يبنى المتعلم معنى ما يتعلمه بنفسه بناء ذاتيًا حيث يتشكل المعنى داخل بنيته المعرفية بناء على رؤية خاصة به، فالأفكار ليست ذات معانٍ ثابتة لدى الأفراد.
- المعرفة ليست موجودة بشكل مستقل عن المتعلم، فهي من ابتكاره هو، وهي تكمن في عقله، ومن ثم تصبح أساس نظرته إلى العالم من حوله.
صرخـة طفـل يتعـلم
هنا ننضم «لحسين زيتون» وهو يفسح المجال لصرخة ذلك الطفل التي ارتد رجع صداها، يصك آذان من يكرسون تلك الأنظمة العتيقة التي تصطدم مع كنه التعلم وحقيقته وفحواه، فلنستمع إليه ماذا يقول:
«لست مجرد ورقة بيضاء فارغة تكتبون عليها أيها الكبار ما تريدون، فلن تكتبوا إلا ما أكتب أنا على ورقتي .. أريحوا أنفسكم وأريحوني وانظروا إلى مثل نظرتكم لورقة النبات الخضراء».
لذا يمكن القول: انثر للبلابل حبات القمح على طرف نافذتك ليأتوا إليك، عندئذ ردد عليهم أنشودة جديدة عن الربيع ثم دربهم على أن ينشدوها، ثم دعهم يطيرون في عنان السماء ليغردوا بها ويضيفوا إليها ما يشاؤون من أنغام أخرى.
 كيف تغير العالم؟
في الأسطورة الصينية حكي أن شابًا أراد أن يحدث تغييرًا في كل من حوله وما حوله، فبدأ بتغيير العالم، سلخ من عمره عشر سنوات أخفق فيها في تغيير العالم، فعاد إلى نفسه وضيق الدائرة حتى يتمكن من التغيير، فقرر أن يغير الصين خلال عشر سنوات، بيد أن الفشل الذريع كان هو النتيجة الحتمية لمحاولته الثانية، فقرر أن يغير مدينته خلال السنوات العشر التالية، فلم يقدر لتجربته النجاح، فقرر تغيير الحي الذي يعيش فيه في السنوات العشر التي تليها، فلم تختلف النتيجة عن التجارب السابقة ... إنه الفشل حتى في محاولته الأخيرة، فانتبه إلى نفسه مقررًا هذه المرة البدء بتغيير نفسه، إذ بتغيير نفسه في البداية سيتمكن من تغيير العالم من حوله، وهو ما كان يتعين عليه القيام به في المحاولة الأولى.
والحق أنه منهج قرآني في الأساس، إذ قبل أن تسعى حثيثًا لتغيير العالم من حولك، ينبغي عليك تغيير نفسك من الداخل، قال تعالى: }إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{.
ابدأ بتغيير  نفسك أولاً:
يحكى أن ملكًا كان يحكم دولة واسعة الأرجاء، أراد الملك القيام برحلة برية طويلة، وخلال عودته وجد أن أقدامه قد تورمت بسبب المشي في الطريق الوعر، فأصدر مرسومًا يقضي بتغطية كل المملكة بالجلد، ولكن أحد مستشاريه أشار عليه برأي  أفضل، وهو عمل قطعة جلد تحت قدمي الملك فقط، فكانت هذه بداية صناعة النعال والأحذية. إذا أردت أن تعيش سعيدًا في العالم فلا تحاول تغيير كل العالم  قبل أن تبدأ التغيير بنفسك، ومن ثم حاول تغيير العالم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
المعرفة من الداخل
يحكى أن رجلاً وقف يراقب – ولعدة ساعات – فراشة صغيرة داخل شرنقتها التي بدأت بالانفراج رويدًا رويدًا ... كانت تحاول جاهدة الخروج من ذلك الثقب الصغير الموجود في شرنقتها، وفجأة سكنت، وبدت وكأنها غير قادرة على الاستمرار. ظن الرجل أن الفراشة قد استنفدت قواها، ولن تستطيع الخروج من ذلك الثقب الصغير، ثم توقفت تمامًا. عندها شعر الرجل بالإشفاق عليها فقرر مساعدتها، وأحضر مقصًا صغيرًا وقص بقية الشرنقة. هنا سقطت الفراشة بسهولة من شرنقتها، ولكن بجسم نحيل وجناحين ذابلين، وظل يراقبها معتقدًا أن أجنحتها ستقوى وتكبر، وأن جسمها الضاوي النحيل سيصبح قادرًا على الطيران.
لم يعلم ذلك الرجل أن قدرة الله – عز وجل – ورحمته بالفراشة جعل محاولاتها المتكررة من داخل الشرنقة سيعمل على خروج سوائل من جسم الفراشة إلى أجنحتها حتى يشتد عودها، ويقوى جسمها، وتصبح قادرة على الطيران، وتصل إلى حالة الكمال المقدر لها.
إن فكرة «المعرفة تبدأ داخل المتعلم، وهو يسعى حثيثًا لتكوينها بفطرته» ستظل سر التعلم الذي يحفظ وجود الإنسان وتميزه، كما تحفظ النواة الصغيرة أسرار النخيل، وكما يهتدي الكتكوت الوليد بإلهام من الله ووحي من غريزته إلى أضعف مكان في البيضة فينقرها من الداخل ليخرج إلى الوجود، كذلك ينتج الإنسان المعرفة المنثورة داخله، في زوايا النفس، وطوايا الحس، وفي ذلك المارد القابع تحت عظام جماجمنا، العقل البشري الذي يصنع المعجزات.
نحو فلسفة إبداعية في التدريس
إن جاز لنا أن نستلهم مقولة  إينشتين Einstein: «إنني لا أكدس ذاكرتي بالحقائق التي أستطيع أن أجدها بسهولة في إحدى الموسوعات»، فإن لنا أن نتساءل أيضًا: لماذا لم يتوصل كثير من العلماء المبدعين إلى مكانتهم المرموقة في البيئة المدرسية الشائعة؟ 
ثمة حقيقة تسطع بجلاء، تؤكدها نتائج البحوث، ويشهد بها الواقع المعيش تتمثل في أن معظم الطلاب المبدعين حصلوا على تقديرات متوسطة أو ضعيفة في التحصيل الدراسي، وترد ذلك لأحد سببين: إما أن المدارس بمراحلها التعليمية المختلفة لم تحفل بالطلاب المبدعين، ولم تستطع تمييزهم وتحديد قدراتهم الإبداعية من ناحية، أو لم تستطع مكافأة هؤلاء المبدعين وإشباع حاجاتهم وقدراتهم التفكيرية الإبداعية من ناحية أخرى.
إن الوضع القائم الذي يكتنف العملية التعليمية والممارسات التربوية التي تدور رحاها داخل أروقة التعليم والتي نسعى إلى تغييرها ينبغي أن تقود في نهاية المطاف إلى فلسفة جديدة من التدريس الإبداعي تشمل كل مساحات الالتقاء ونقاط التماس التي يلتقي فيها المعلم مع مفردات منظومة المنهج، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: مفهوم التدريس الإبداعي
هو مجموعة الإجراءات والخطوات غير النمطية التي يقوم بها المعلم داخل الفصل، ومن خلالها يمكن الطالب من ربط الخبرات التربوية التي تمر به، وإحكام الصلة بينها، وإعادة تنظيم عناصرها المختلفة بطرق جديدة تتسم بالطلاقة والمرونة والأصالة، والإفاضة (التوسع والإثراء بالتفاصيل).
ثانيًا: مهارات التدريس الإبداعي:
ثمة مجموعة من مهارات التدريس الإبداعي يمكن استعراضها على النحو الآتي:
- المرونة في تحديد مفردات الدروس وتنظيم عناصرها.
- إثراء موضوعات الدروس ببعض الإضافات من مصادر خارجية.
- صياغة الأهداف التعليمية على مستوى الإبداع.
- تهيئة المناخ الصفي المناسب للإبداع.
- توظيف طرائق تدريس متنوعة وخاصة تلك التي ثبت فعاليتها في تنمية الإبداع    
وتوظيفها في عملية التدريس.
- إعداد أنشطة محفزة تثير الإبداع لدى الطلاب.
- طرح أسئلة مفتوحة النهاية.
- توظيف وسائل تعليمية متنوعة ومبتكرة.
- وضع الطلاب في مواقف جديدة ومواجهتهم بمشكلات تتطلب حلولاً إبداعية.
- تهيئة الفرص للطلاب للتجريب والاكتشاف والإبداع من خلال دروس المختبرات.
- تعزيز السلوك الإبداعي بطرق متنوعة ومبتكرة.
- طرح واجبات وأنشطة مصاحبة تساعد على تنمية الإبداع.
 - تقديم أنشطة إثرائية تتيح للطلاب الانفتاح على أفكار الآخرين وإنتاج أفكار جديدة. 
- توجيه الطلاب بتوظيف بعض موضوعات المحتوى في مواقف جديدة.
- استخدام الأسئلة الصفية لإثارة التفكير التباعدي لدى الطلاب.
- إتاحة الفرص المتعددة للطلاب للتجريب وإظهار براعتهم مع احتمال الخطأ والصواب.   
- مساعدة الطلاب على الربط بين المواد الدراسية التي يدرسونها وإحداث التكامل بينها.   
- تقويم الطلاب بطريقة تسمح بتنوع إجاباتهم وتعددها.
- معالجة  موضوعات المحتوى بأكثر من زاوية فكرية.
- تعيين واجبات منزلية وأنشطة مصاحبة تساعد على تنمية الإبداع.
ثالثًا: التدريس الإبداعي ومفردات منظومة المنهج
أ- التدريس الإبداعي والأهداف:
يمكن تقديم بعض الأمثلة لأهداف أحد المناهج التي تعكس الإبداع، من خلالها  يتم إحكام الصلة بين التدريس الإبداعي والأهداف، منها ما يأتي
- أن يهتم المعلم بوضع أهداف على مستوى الإبداع.
- أن يهتم المعلم بوضع أهداف تعالج مستويات التفكير المختلفة.
- أن يكتسب الطلاب مهارة كتابة البحوث القصيرة.
- أن يكتسب الطلاب مهارة كتابة تقارير شفهية عن مشكلات, قاموا بدراستها.
- أن يكتسب الطلاب تقارير تحريرية عن مشكلات, قاموا بدراستها.
- أن يكتسب الطلاب القدرة على تحليل النصوص في المادة العلمية.
- أن يكتسب الطلاب القدرة على التخطيط الجماعي.
- أن يشارك الطلاب في الحوارات والمناقشات.
ب - التدريس الإبداعي والمحتوى:
ويمكن إحكام الصلة بين التدريس الإبداعي والمحتوى من خلال الأسلوب المستخدم في صياغة المحتوى، الذي يمكن من خلاله أن يتم:
-  توجيه المعلم للطلاب للبحث عن تفاصيل موضوعات المحتوى التي طرحت بدون تفصيل بالمكتبة والبيئة المحيطة وغيرها.
- ربط موضوعات المحتوى بالبيئة ومشكلاتها.
- إثارة مشكلات يفكر فيها الطلاب.
- إثارة الدافعية لدى الطلاب.
- تقديم أسئلة للمناقشات مع الزملاء والمعلم.
- تقديم توجيهات لمصادر المعرفة الأخرى.
- التوصل إلى تكوينات معرفية جديدة بالنسبة للطلاب.
- إعداد وسائل تعليمية, وأنشطة يقوم بتنفيذها مجموعات الطلاب في المراحل المختلفة من تنفيذ المنهج.
ج -  التدريس الإبداعي واستراتيجيات التدريس:
ويمكن إحكام الصلة بين التدريس الإبداعي واستراتيجيات التدريس من خلال:
- استخدام استراتيجية الأسئلــــــة  ومن خلالها:
يكلف الطالب بطرح أكبر عدد من الأسئلة حول الموقف المعطى سواء أكان هذا الموقف صورة مرئية، أو قطعة مكتوبة، أو موقفًا تمثيليًا.. وهكذا، بما يساعد على تحقيق الطلاقة والمرونة الفكرية لدى الطلاب.
يكلف الطالب بالإجابة عن أسئلة تتعلق بإضافة أكبر قدر ممكن من التفصيلات للنص المعروض أو الرسم المتاح، على أن تتسم هذه الإضافات بالتنوع وعدم المألوفية.
يطرح المعلم أسئلة تشحذ الخيال الحر وتستثيره لدى الطالب، الذي يكلف بالإجابة عن  تلك الأسئلة، ومن خلالها يتم وضع الطالب في موقف تخيلي مستحيل الحصول، مثال.. «تخيل نفسك كتابًا مفضلًا، صف نفسك»،  «أغمض عينك وتخيل أنك كرة في معلب».
يكلف الطالب بالإجابة عن أسئلة تتعلق  بوضع أكبر عدد من العناوين للموقف المعطى سواء أكان هذا الموقف قصة يضع عنوانًا لها،  أو صورة مرئية،  أو قطعة مكتوبة أو موقفًا تمثيليًا.. وهكذا، بما يسهم في إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكار ذات العلاقة بالموضوع، مع تحقيق أكبر قدر من المرونة في التفكير.
- استخدام الأسئلة الصفية لإثارة التفكير التباعدي لدى الطلاب.
- استخدام استراتيجية حل المشكلات  ومن خلالها:
يكلف الطالب بطرح أكبر عدد ممكن من الحلول للمشكلات المختلفة سواء أكانت هذه المشكلات معروضة بشكل مرئي أو مسموع أو مقروء.
 إثارة الطلاب لاكتشاف المشكلات التي يتضمنها الموقف التعليمي بطرق جديدة ومتنوعة.
وعلى المعلم أن يثير المشكلات بطرق إبداعية بدرجات متفاوتة بحيث تستفز وتلبي قدرات الطلاب وتُفجّر طاقاتهم الإبداعية (يسري مصطفى، د. ت).
ومن أمثلة المشكلات التي يمكن للمعلم إثارتها في صورة أسئلة إبداعية:
ـ كيف ينتقل الماء من التربة إلى قمة الشجرة ضد الجاذبية الأرضية؟
ـ ماذا يحدث لو كانت مياه نهر النيل تسير في الاتجاه المخالف؟
 ـ ماذا يحدث لو دارت الأرض حول نفسها بسرعة تعادل 24 مرة سرعة دورانها الحالية؟
 ـ كيف يمكنك الاستفادة من الزجاجات الملقاة في صندوق القمامة؟
ــ اكتب قصة قصيرة لا تزيد كلماتها عن خمس كلمات.
ـ عبّر فنيًا بالرسم عن علاقة القط بالفأر.
 ـ كيف يمكنك قياس مساحة دائرة دون استخدام أية قوانين هندسية؟
ـ ماذا تتوقع أن يحدث لو انعدمت الجاذبية الأرضية؟
- استخدام استراتيجيات تدريس أخرى يراعى فيها التنوع والملاءمة للموقف التدريسي وإثارة الإبداع لدى الطلاب، مثل الاكتشاف الموجة، والعصف الذهني، ولعب الأدوار، والتعلم التعاوني...إلخ.
- استخدام استراتيجيات تدريس تساعد على إثارة دوافع الطلاب بما يضمن الإقبال على مواقف التدريس، والمشاركة فيها.
- استخدام استراتيجيات التدريس, التي تمكن المعلم من مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب تضمن سيطرة التفاعلات الإنسانية على مواقف التدريس, على اختلاف أنواعها ومستوياتها.
- استخدام استراتيجيات تدريس تسهم في  تنوع الأنشطة المدرسية، وارتباطها بالمواقف التدريسية.
د- التدريس الإبداعي والتقويم:
ويمكن إحكام الصلة بين التدريس الإبداعي والتقويم من خلال:  
- التحرر – وإن بقدر – من القيود التي يفرضها تطبيق أساليب التقويم النمطية بالمدارس.
- طرح أسئلة لا تتطلب إجابة صحيحة محددة والتخلي عن فكرة الجواب الصحيح الأوحد.
- طرح تكليفات منزلية تتطلب تقديم إجابات إبداعية.
- طرح أسئلة مفتوحة النهاية.
- طرح أسئلة تثير التفكير التباعدي لدى الطلاب.
- ارتباط المنتج الإبداعي من عملية التقويم بالأهداف المحددة سلفًا.
- طرح مقاييس تقيس اتجاهات وميول الطلاب نحو الإبداع. 



أهم المراجع:
(1) أحمد عبادة (2001): التفكير الابتكاري المعوقات والميسرات، مركز الكتاب والنشر.
(2) أحمد عبدالحميد مهدي (د. ت): الإبداع مدخل لتطوير المناهج، كلية اللغات، جامعة المدينة العالمية، ماليزيا.
(3) أحمد لطفي شاهين (د. ت): مفهوم التدريس الإبداعي، فلسطين (د. ن).
(4)حسين زيتون (2004): استراتيجيات التدريس، القاهرة، عالم الكتب.
(5) عبداللطيف عبدالقادرعلي أبوبكر (2004): التربية الإبداعية في التصور الإسلامي، مسقط، مكتبة الضامري.
(6) وليم عبيد (2009): استراتيجيات التعليم والتعلم في سياق ثقافة الجودة، عمان، دار المسيرة.                                    
(7) يسري مصطفى السيد (د. ت): الإبداع في العملية التربوية، وسائله ونتائجه، كلية التربية، جامعة أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة.